حكم مرتكب الكبائر في الإسلام هل يخرج من الملة ويصبح كافرًا أم لا يخرج من الملة؟
الحياة مليئة بالتحديات والاختبارات وقد تتعثر قدم الإنسان في بعض اللحظات يمكن أن يؤدي به ذلك إلى اقتراف الكبائر لكن الإسلام دين يسر وضع إطارًا شاملًا للتعامل مع مرتكبي الكبائر جامعًا بين العدل والرحمة وبين الحث على التوبة والإنذار بعاقبة الإصرار.
سنتعرف في هذا المقال عن ما هي الكبائر؟ وما حكم مرتكب الكبائر في الإسلام؟ وسنتترك لكل ما له صلة بهذا الموضوع.
عرف علماء المسلمين الكبائر بأنها الذنوب التي تُلحق بالعبد الوعيد الشديد في الدنيا أو الآخرة أو تلك التي تستوجب حداً أو غضباً من الله وقد جاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لتبين أن الكبائر تتعدى آثارها الفرد لتؤثر على المجتمع بأسره، وذلك يجعلها أشد خطراً من غيرها من الذنوب فالإمام الذهبي يقول: “الكبائر هي كل معصية فيها حد أو وعيد في الآخرة أو لُعِن صاحبها.”
الكبائر تختلف عن الصغائر من حيث الأثر والجزاء، فهي تُهلك النفس إذا لم يتداركها الإنسان بالتوبة النصوح.
أمثلة على الكبائر كما وردت في القرآن والسنة
جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية عددًا من الكبائر التي تهدد الفرد والمجتمع ومن أبرزها:
1. الشرك بالله
الشرك هو أعظم الذنوب، وفيه يساوي الإنسان بين الخالق والمخلوق في العبادة أو الدعاء، فالله تعالى يقول في كتابه الكريم:
“إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ” (سورة النساء، الآية 48)، فالشرك بالله يُفسد التوحيد الذي هو أساس العقيدة الإسلامية.
2. قتل النفس بغير حق
قتل النفس هو اعتداء على أقدس حقوق الإنسان: حق الحياة، فالله تعالى يقول:
“وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا” (سورة النساء، الآية 93)، كما يُثير القتل الفوضى والخوف في المجتمع بأسره.
3. السحر
السحر يعكس اعتداءً على الإيمان بالله حيث يعتمد الساحر على الجن والشياطين لإحداث الأذى وقد يصل الحد بالساحر في بعد الأحيان إلى عبادة الجن حتى يتمكن من أذى الناس، فالله تعالى يقول:
قال النبي ﷺ: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين” (رواه البخاري ومسلم)، فالإسلام يجعل البر بالوالدين من أعظم القربات وعقوقهما من أعظم الكبائر لما فيه من نكران الجميل وإفساد الروابط الأسرية.
5. أكل الربا
الربا هو التعامل بالفائدة المالية التي تزيد على رأس المال، وذلك يؤدي إلى ظلم واستغلال الآخرين، والله تعالى يقول في كتابه: “فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ” (سورة البقرة، الآية 279)، فالربا يؤدي إلى تفاوت طبقي واستغلال الفقراء.
6. قذف المحصنات
قذف المحصنات هو اتهام النساء العفيفات بالزنا أو الفاحشة دون دليل شرعي، والتهمة الكاذبة ضد المحصنات تهدم سمعة الإنسان وتُفسد المجتمعات، والله تعالى يقول: “إِنَّ الَّذِينَ يُرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ” (سورة النور، الآية 23).
7. التولي يوم الزحف
التولي يوم الزحف هو الفرار من ميدان القتال عند مواجهة العدو ما لم يكن ذلك تكتيكًا عسكريًا، والله تعالى يقول: “وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ” (سورة الأنفال، الآية 16)، فالتولي يُضعف صفوف المسلمين ويُشجع الأعداء على التقدم.
حكم مرتكب الكبائر في الإسلام
حكم مرتكب الكبائر في الدنيا
الشريعة الإسلامية وضعت حدوداً وعقوبات صارمة للكثير من الكبائر، لتكون رادعاً لمن تسول له نفسه ارتكابها ومن أبرز هذه الحدود:
القتل: يُعاقب بالقصاص إذا كان عمداً.
الزنا: يُجلد الزاني غير المحصن مئة جلدة ويُرجم المحصن حتى الموت.
السرقة: يُعاقب السارق بقطع يده إذا توافرت الشروط الشرعية.
القذف: يُجلد القاذف ثمانين جلدة ما لم يأتِ بأربعة شهود.
حكم مرتكب الكبائر في الآخرة
الكبائر تُعرض صاحبها لعذاب الله في الآخرة إذا لم يتب منها، وقد يدخل النار بسببها إلا أن الله سبحانه وتعالى برحمته يفتح باب التوبة أمام عباده ويغفر لمن تاب وأناب.
حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة
يرى أهل السنة والجماعة أن مرتكب الكبيرة يظل مسلمًا إذا كان يعترف بأن ما فعله معصية لله ولم يستحلها (أي لم يعتقد أنها حلال)، واستدلوا بقول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ” (سورة النساء، الآية 48).
الآية تُظهر أن المعاصي والذنوب دون الشرك قابلة للمغفرة برحمة الله، ويدل ذلك على أن مرتكب الكبيرة يظل تحت مشيئة الله.
عند أهل السنة يُطلق على مرتكب الكبيرة وصف مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وذلك يعني أن إيمانه موجود لكنه ناقص بسبب ارتكابه المعصية (أي أن فعل الكبيرة لا تجعله كافرًا)
قال النبي ﷺ: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن…” (رواه البخاري ومسلم)، والحديث يُوضح أن الإيمان ينقص وقت ارتكاب الكبيرة، لكنه لا يزول تمامًا.
ويرى أهل السنة أن مرتكب الكبيرة إذا مات دون توبة فهو تحت مشيئة الله إن شاء الله عفا عنه وغفر له برحمته وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم يخرجه من النار ويدخله الجنة، واستدلوا بقول النبي ﷺ:
“يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.” (رواه البخاري).
كما أوضح أهل السنة أن التوبة هي الوسيلة الأكيدة للتخلص من أثر الكبيرة، وذلك استنادًا لقول الله تعالى: “إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ” (سورة الفرقان، الآية 70).
ومما سبق نجد أن منهج أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة يقوم على الإنصاف حيث لا يخرجونه من دائرة الإسلام، ولكنهم يقرون بعظم ذنبه وخطورته على دينه وآخرته مع ذلك يؤكدون على أن باب التوبة دائمًا مفتوح وأن رحمة الله واسعة.
اتسم منهج أهل السنة والجماعة بالوسيطية في الحكم على مرتكب الكبائر على عكس باقي الجماعات، فالخوارج يغالون في حكمهم ويكفرون مرتكب الكبيرة ويخرجونه من الإسلام، والمرجئة مفرطون يرون أن الإيمان لا يتأثر بالمعاصي مهما كانت كبيرة.
هل الزنا من الكبائر؟
يُعد الزنا من الكبائر في الإسلام ومن أعظم الذنوب التي حذرت منها الشريعة لما له من آثار مدمرة على الأفراد والمجتمعات، وقد جاءت النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية واضحة وصريحة في التحذير منه وبيان عاقبته في الدنيا والآخرة.
وصف الله الزنا بأنه “فاحشة” وهو وصف يُستخدم للذنوب العظيمة التي تتنافى مع الفطرة السليمة والأخلاق الكريمة، كما أن الله نهى حتى عن الاقتراب من الزنا وليس فقط عن فعله لتحذير الإنسان من أي مقدمات قد تقوده إليه.
الدليل من السنة النبوية
قال النبي ﷺ:
“لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن” (رواه البخاري ومسلم).
يدل الحديث على أن الزنا ينقص الإيمان بشكل كبير وقت وقوعه وذلك يُبرز خطورة هذا الذنب، فالنبي ﷺ عدَّ الزنا من أكبر الكبائر بعد الشرك وعقوق الوالدين، كما في حديث: “اجتنبوا السبع الموبقات…” وذكر منها “الزنا” (رواه البخاري ومسلم).
عقوبة الزنا في الإسلام
عقوبة الزنا تُظهر أنه من الكبائر العظيمة، لأن الله شرع له حدًّا صارمًا، فالزاني المحصن (المتزوج) يُرجم حتى الموت والزاني غير المحصن (غير المتزوج) يُجلد مائة جلدة مع التغريب (النفي) عامًا، كما قال تعالى: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ” (سورة النور، الآية 2).
حكم الشرك بالله
الشرك بالله هو أعظم الذنوب وأكبر الكبائر في الإسلام، وحكمه شديد وخطورته عظيمة، فالشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله إذا مات الإنسان عليه دون توبة.
تعريف الشرك بالله
الشرك في اللغة: اتخاذ شريك. أما في الشرعة هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، كالدعاء، أو الذبح، أو السجود لغيره، أو اعتقاد أن أحدًا يملك شيئًا من خصائص الألوهية كالعلم المطلق أو القدرة المطلقة.
أنواع الشرك
الشرك الأكبر
وهو صرف العبادة لغير الله، أو مساواة غير الله بالله في شيء من حقوقه ومن أمثلته:
دعاء غير الله (كالأنبياء أو الأولياء) والاستغاثة بهم.
السجود أو الذبح لغير الله.
الاعتقاد بأن أحدًا غير الله يملك القدرة على التصرف في الكون.
حكمه: يُخرج صاحبه من الإسلام ويُحبط جميع أعماله، كما أنه إذا مات عليه دون توبة، فإن مصيره جهنم خالدًا فيها، لقول الله تعالى:
وهو كل ما يؤدي إلى الشرك الأكبر أو ينقص التوحيد، لكنه لا يُخرج من الإسلام وأمثلته:
الرياء بأن يقوم الإنسان بعمل صالح ليُرى من الناس.
الحلف بغير الله كالحلف بالنبي أو بالكعبة.
حكمه: لا يُخرج من الإسلام، لكنه يُنقص الإيمان ويُعرض صاحبه للعقوبة، لقال النبي ﷺ:
“إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر.” قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء.” (رواه أحمد).
من الايمان المحرمة وتعد من الكبائر ولا كفارة فيها
اليمين الغموس هي من أنواع الأيمان المحرمة في الإسلام وتُعد من الكبائر، لأنها تتضمن ذنب مزدوج الكذب المتعمد واستغلال اسم الله في تبرير هذا الكذب، ويؤدي ذلك إلى ظلم الآخرين، وسُميت غموسًا لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في نار جهنم.
تعريف اليمين الغموس
اليمين الغموس هي أن يحلف الشخص بالله كذبًا عن عمد على أمر ماضٍ أو حاضر مع علمه بأنه كاذب بغرض الخداع أو نيل مصلحة غير مشروعة.
مثل أن يُقسم شخص زورًا أنه لم يأخذ مالًا من أحد، وهو يعلم تمامًا أنه أخذه، أو أن يحلف أمام القاضي بشهادة كاذبة لإلحاق الضرر بغيره.
حكم اليمين الغموس في الإسلام
اليمين الغموس محرمة تحريمًا قاطعًا وتُعد من الكبائر العظيمة حيث قال النبي ﷺ:
“من أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور” (رواه البخاري).
يرى جمهور العلماء أن اليمين الغموس لا كفارة فيها، والتوبة النصوح هي السبيل الوحيد للتكفير عن هذا الذنب، وهي توبة صادقة تتضمن الإقلاع عن الكذب، والندم الشديد، ورد الحقوق إلى أصحابها إن وُجدت.
وورد في الحديث الشريف:
“من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو عليها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان” (رواه البخاري ومسلم) ويُظهر الحديث أن اليمين الغموس جريمة تُعرض صاحبها لسخط الله، خاصة إذا كانت مرتبطة بظلم الآخرين.
التوبة من الكبائر
مع خطورة الكبائر أتاح الله باب التوبة، ليعطي الأمل لكل من وقع فيها، فالله تعالى يقول: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ” (سورة الزمر، الآية 53) وتتطلب التوبة النصوح الشروط التالية:
الإقلاع عن الذنب فورًا.
الندم الصادق على ارتكابه.
العزم على عدم العودة إليه مجددًا.
رد الحقوق إلى أصحابها إن كان في الذنب تعدٍّ على الآخرين.
كما أن التوبة تجب ما قبلها، فالنبي ﷺ قال: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له” (رواه ابن ماجه)، وذلك دليل على أن التوبة تمحو أثر الكبائر وتُعيد الإنسان إلى رحمة الله.
في الختام، وبعد الحديث عن حكم الكبائر في الإسلام نجد أن هذا الموضوع يعكس رحمة الله الواسعة وعدله الدقيق، فالإسلام بما يحويه من تشريعات يوازن بين تحقيق العدل في الدنيا وبين فتح أبواب الرحمة والمغفرة في الآخرة، ومن هنا يأتي تأكيد أهل السنة والجماعة على أن مرتكب الكبيرة يبقى في دائرة الإسلام طالما لم يستحل فعلته وإن كان فاسقًا بكبيرته، كما أن التوبة الصادقة هي مفتاح النجاة تفتح له باب الرحمة وتزيل عنه آثار الذنب.