تفسير سورة الأعلى بشرح مبسط والدروس المستفادة منها
تفسير سورة الأعلى بشرح مبسط
حين تشرق شمس الإيمان في قلب المؤمن يدرك أن لكل حرف في القرآن نورًا يهديه، ولكل آية سرًّا يرشده، ومن بين تلك الآيات العظيمة تتلألأ سورة الأعلى كدليل على عظمة الله وقدرته، فهي تفتح أبواب التأمل في خلقه، وتدعونا إلى التسبيح والتنزيه، وتجعل القلب متعلِّقًا بالآخرة أكثر من الدنيا.
هذه السورة رسالة إلهية تحمل أعظم معاني الهداية والتزكية، حتى أن النبي ﷺ كان يحرص على قراءتها في الجمعة والعيدين، وكأنها مفتاح لتذكير المؤمنين بما هو أهم وأبقى.
فما هي أسرار هذه السورة العظيمة؟ وما الرسائل الربانية التي تحملها لنا؟، سنتعرف في هذا المقال على معانيها العميقة، ونستلهم منها دروسًا تهدي القلوب، وتوقظ النفوس، وترفع الهمم نحو معارج الكمال الإيماني.
سورة الأعلى
سورة الأعلى سورة مكية عدد آياتها 19 آية، وترتيبها في المصحف سورة رقم 87، وقد أحبها رسول الله ﷺ، فعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يحب هذه السورة: “سَبَّح اسمَ رَبِّك الأَعلَى” (رواه أحمد)، وحق لرسول الله ﷺ أن يحب هذه السورة، ويقرأها في المناسبات، فهي تجعل الكون كله معبدًا تُردد أرجاؤه تسبيح ربه الأعلى وتمجيده، كما أنها تحمل بشريات لرسول الله ﷺ، مثل تكفل الله عز وجل بتحفيظ قلب النبي ﷺ القرآن الكريم فلا ينساه، ووعده سبحانه وتعالى له بتيسير أموره وأمور الدعوة.
وتتضمن السورة من القواعد الثابتة للتصور الإيماني: توحيد الخالق سبحانه وتعالى، وإثبات الوحي الإلهي، وتقرير الجزاء في الآخرة.
وهي تقرأ في الأعياد، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يقرأ في العيدين وفي الجمعة ب “سَبَّح اسمَ رَبِّك الأَعلَى”، و”هَل أَتاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ”، قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضًا في الصلاتين. (رواه مسلم)
سورة الأعلى مكتوبة
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ١ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ٢ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ٣ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ٤ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ٥ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى ٦ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ٧ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ٨ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ٩ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ١٠ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ١١ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ١٢ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ١٣ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ١٤ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ١٥ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ١٦ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ١٧ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ١٨ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ١٩﴾
معاني بعض المفردات في سورة الأعلى
سَبِّحِ: نَزَّه وقَدَّس. فَسَوَّى: عدَّل وأحسن.
قَدَّرَ: جعل الاشياء على مقادير. الْمَرْعَى: ما ترعاه الدواب.
غُثَاءً: هشيمًا متفتتًا. أَحْوَى: يميل لونه للسواد.
الْجَهْرَ: ما ظهر من فعل أو قول. الْأَشْقَى: الشقي المعاند.
أَفْلَحَ: ظفر ونجا. تَزَكَّى: تطهر.
تُؤْثِرُونَ: تُفضلون. الصُّحُفِ: المقصود ما يكتب فيها.
تفسير سورة الأعلى
تفسير الآيات (1-5) من سورة الأعلى (التذكير بعظمة الله في خلقه)
يبدأ الله السورة بأمر لنبيه محمد ﷺ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، أي نزه الله عن كل نقص، ونادِه بأسمائه الحسنى واستحضر معانيها، وهو أمر فيه من التلطف والإيناس ما يجل عن التعبير، ثم يبين الله مظاهر قدرته في الخلق: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ أي خلق الإنسان والحيوان والنبات وسوى خلْقهم في أحسن هيئة.
ثم يقول: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ أي أن الله قدر لكل شيء نظامه، ثم هداه إلى ما يصلحه، مثل هداية الطفل إلى الرضاعة، وهداية الطير إلى الهجرة، وهداية الإنسان بالعقل والشرائع، ثم يذكر نعمة إخراج الزرع ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ أي أن الله ينبت النبات ثم يجف ليصبح هشيمًا في إشارة إلى دورة الحياة الدنيا.
تفسير الآيات (6-8) من سورة الأعلى (تثبيت النبي ﷺ وتهيئته للدعوة)
يطمئن الله نبيه ويُبشره، ويُبشر أمته من بعده بأن القرآن محفوظ في صدره ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى﴾ إلا ما شاء الله لحكمة، فما على الرسول ﷺ إلا قراءة القرآن الذي يتلقاه من ربه، وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه، فلن ينسى ما يُقرئه إياه ربه، إلا ما أراد الله نسخه ومحوه لحكمة يعلمها سبحانه وتعلى بعلمه الذي يشمل كل ظاهر وكل خفي، وهذا دليل على أن القرآن ليس من تأليف بشر، بل وحي من الله
ثم تأتي البشرة الثانية ويقول الله تعالى: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ أي نهيئ لك أسهل الطرق للدعوة، وهذا وعد من الله بتسهيل الأمور لنبيه ﷺ، وتسهيل أفعال الخير وأقواله، والهداية للشريعة الإسلامية السمحة المستقيمة العادلة، شريعة لا حرج فيها ولا عُسر، ألا وهي شريعة الإسلام.
وانعكست تلك البشارة على سيرة الرسول الكريم ﷺ وسنته، فكلها صفحات من السماحة واليسر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: مَا خُيِّرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا أخَذَ أيْسَرَهُمَا (رواه البخاري)، وتجلى ذلك في هديه ﷺ في الطعام والشراب واللباس، وسائر أحكام العبادات، وفي علاجه للأمور، وتعامله مع أصحابه وأعدائه.
تفسير الآيات (9-13) من سورة الأعلى (مصير الناس يوم القيامة)
يأمر الله نبيه بالتذكير بالدين، ولكن التذكرة تفيد فقط من يخاف الله، فتُوضع التذكرة في موضعها، وحيث يُرجى لها نفع، فلا تُوضع فيمن لا يُرجى وعيهم لها ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾، فمن كان له قلب حي يؤمن بالله عز وجل، ويخاف عذابه، فإنه سينتفع بالموعظة،، بينما يعرض عنها الأشقياء الذين سيكون مصيرهم النار الكبرى بشدتها وبضخامتها يصلاها في الآخرة ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾، حيث لا يموت فيها فيستريح، ولا يحيا حياة كريمة ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾.
تفسير الآيات (14-19) من سورة الأعلى (حقيقة الفلاح والتذكير بالصحف السابقة)
يبين الله أن الفلاح الحقيقي ليس في الدنيا، بل في التزكية ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾، أي طهر نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وطهر بدنه من الأرجاس، وطهر ماله من الحرام، وذكر الله، ثم يربط ذلك بالصلاة ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ أي أن الصلاة من أسباب النجاة، ثم يذكر أن الناس يفضلون الدنيا على الآخرة، وهي علة شقاء العباد، وسبب غفلتهم عن الذكر والتطهر ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، لأن الدنيا فانية بينما الآخرة دائمة، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “مَن أَحَبَّ دنياه أَضَرَّ بآخِرَتِه، ومَن أَحَبَّ آخِرَتَه أَضَرَّ بدنياه، فآثِرُوا ما يَبْقَى على ما يَفْنَى” (رواه أحمد).
وفي ظل حقيقة أن الدنيا من الدنو والهبوط، فهي إلى زوال، وأن الآخرة هي الباقية، يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير، ولا يقدم عليهما عاقل بصير.
وأخيرًا يؤكد الله أن هذه الحقائق مذكورة في الكتب السماوية السابقة المنزلة على إبراهيم وموسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾، فمصدر التلقي واحد لجميع الأنبياء، فالحق واحد، والعقيدة واحدة.
الدروس المستفادة من سورة الأعلى
- ضرورة توحيد الخالق، وإثبات الوحي الإلهي.
- وجوب تسبيح الله وتنزيهه، والتسبيح هو الاعتراف بعظمة الله المطلقة، ورفع اسمه فوق كل نقص.
- التدبر في مخلوقات الله، فكل شيء حولنا، من الإنسان إلى النبات يدل على إبداع الله في الخلق.
- اليقين بأن الله ييسر الأمور لعباده المؤمنين، فكما وعد الله نبيه بالتيسير، فإن المؤمن الذي يسير على طريق الحق سيجد التيسير.
- الفرق بين المؤمن والكافر في الاستجابة للذكرى، فالمؤمن يخشى الله، أما الكافر فيعرض عن الذكرى حتى يلقى مصيره المشؤوم.
- حقيقة الفلاح ليست في الدنيا بل في تزكية النفس والعمل الصالح، والنجاح الحقيقي هو التقرب إلى الله بالصلاة والطاعة.
- الدنيا فانية والآخرة هي الباقية، فيجب ألا تغرنا الدنيا، فالنهاية الحقيقية هي في الدار الآخرة.
- اتفاق الرسالات السماوية على التوحيد، فالتعاليم الإسلامية متوافقة مع رسالات إبراهيم وموسى عليهما السلام.
في الختام، نجد سورة الأعلى رحلة إيمانية تأخذ القلب والعقل إلى آفاق جديدة من التأمل في عظمة الله، وتضع الإنسان أمام حقيقة الدنيا والآخرة بميزان الحق، فهي دعوة لنسمو بأرواحنا فوق المغريات الفانية، ونسير على درب التسبيح والتزكية والطاعة، حتى نكون من الذين قال الله عنهم: “قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى”.
والسؤال الذي ينبغي أن نسأله لأنفسنا الآن: هل سنظل نؤثر الحياة الدنيا، أم سنجعل الآخرة همنا الأكبر؟ إن الإجابة أفعال وقرارات تُترجم في واقعنا اليومي، فيجب أن نجعل هذه السورة نبراسًا لحياتنا، نتأمل آياتها، ونعمل بمقتضاها، ونسير على منهجها حتى نكون من الفائزين في الدنيا والآخرة. فما أعظم أن يعيش الإنسان حياته وهو يسعى للفلاح الحقيقي، الذي لا يتحقق إلا بالقرب من الله، فنسأل الله أن يجعلنا من أهل التسبيح والطاعة، وأن يرزقنا الفهم العميق لآياته، والعمل بها، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر