تفسير قوله تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}
تفسير قوله تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، والدروس المستفادة
{وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} آية 216 من سورة البقرة، وتحمل معاني عميقة في حياة المسلم، حيث تُعلمنا كيف نثق بحكمة الله في تدبير شؤون حياتنا، كما تعكس مدى عظمة القرآن في توجيه النفوس إلى الاطمئنان، والصبر على المحن، والرضا بما يقدره الله.
سنتناول في هذا المقال تفسير الآية بالتفصيل من كلام علماء التفسير، مع دروس عملية مستفادة وربطها بواقع الحياة.
نص آية {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}
قال الله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة، الآية 216).
سياق آية {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}
وردت هذه الآية الكريمة في سياق الحديث عن الجهاد في سبيل الله، وهو أمر شاق على النفس، لما فيه من مخاطرة بالنفس والمال، ولكن الله يُلفت نظر المؤمنين إلى أن هذا الأمر الذي قد تكرهونه فيه خير عظيم، لأنه يُقوي الأمة، ويحفظ الدين، ويرفع درجات المؤمنين في الدنيا والآخرة، وتحمل الآية رسالة أوسع من الجهاد فقط، حيث أنها قاعدة إيمانية يمكن تطبيقها على كافة تفاصيل الحياة.
تفسير قوله تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}
تفسير ابن كثير
قال ابن كثير رحمه الله:
“يُخبر الله عباده المؤمنين أنه فرض عليهم الجهاد، رغم كراهتهم له، لما فيه من مفارقة الأحباب، وبذل الأموال، ومكابدة الأعداء لكنه خير لهم لما فيه من عزة الإسلام، ورفع درجتهم عند الله، والثواب العظيم في الدنيا والآخرة.”
وأضاف أن الآية تنبه المؤمنين إلى التسليم الكامل لحكم الله، حتى وإن لم يدركوا الحكمة من وراء الأمور.
تفسير الإمام الطبري
يُركز الطبري في تفسيره على حقيقة أن الله وحده يعلم الخير والشر، بينما علم الإنسان قاصر، ويقول الطبري: “قد يكون ما يكرهه الإنسان من الأمور خيرًا له في دينه ودنياه، وما يحبه قد يجلب له الضرر في العاجل أو الآجل.”، كما يوضح أن الجهاد رغم كونه مكروهًا للنفس يحمل منافع عظيمة للأمة بأكملها.
تفسير الإمام القرطبي
يشير القرطبي إلى أن الآية تأسيس لقيمة الثقة في الله، ويقول: “الإنسان قد يحب أمرًا يؤدي إلى فساد دينه أو دنياه، كحب المال الذي قد يدفعه إلى الحرام، أو كراهة المرض الذي قد يكون تكفيرًا للذنوب ورفعًا للدرجات.”، ويضيف أن هذا الأمر لا يقتصر على الجهاد، بل يشمل كافة أقدار الله في حياة الإنسان.
تفسير السعدي
ركز السعدي في تفسيره على المعنى الروحي والنفسي للآية، وقال: “الآية دعوة للمؤمنين إلى الإيمان بأن الله أرحم بهم من أنفسهم، وما يقدره لهم هو الخير المطلق، وإن بدا في ظاهره شرًا، فالمؤمن مُطالب بالرضا والصبر، انتظارًا لكشف الحكمة الإلهية”.
الدروس المستفادة من آية {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}
الآية الكريمة تحمل الكثير من الحكم والمعاني العميقة التي ترسخ العقيدة في قلب المؤمن وتعلمه كيف يواجه مصاعب الحياة بثقة ورضا، وفيما يلي أبرز الدروس المستفادة منها:
الإيمان بعلم الله المطلق
الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء؛ يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، ويدبر أمور عباده بعلمه الشامل، وهذه الآية ترسخ عقيدة التوحيد وتُذكر المؤمن بأن الله يعلم ما لا يعلمه الإنسان، ولهذا قال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، فالمؤمن يُسلم لله بكل تفاصيل حياته لأنه يعلم أن علم الله وحكمته أوسع من إدراكه المحدود.
تقوية الإيمان بالقضاء والقدر
الآية تذكرنا بأن كل ما يقع من أقدار الله خير للمؤمن سواء أدرك الحكمة أم لا، فقد يرى الإنسان في ظاهر الأمر شرًا أو مكروهًا، ولكن في باطنه خير عظيم، والنبي ﷺ قال: “عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير… إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له” (رواه مسلم).
الرضا بالقضاء وراحة النفس
الرضا بما قسمه الله عز وجل هو أحد أهم أسباب السعادة القلبية، وعندما يُدرك المؤمن أن كل ما يقدره الله فيه خير له، حتى وإن كرهه، فإنه يطمئن قلبه، ويزول عنه القلق والحزن، والآية تُعلمنا الرضا والتسليم الكامل لإرادة الله، مع اليقين بأنه سبحانه لا يُقدر إلا الخير لعباده.
الصبر عند المحن والشدائد
الآية تُحث المؤمن على الصبر عند الابتلاءات، لأنها قد تكون سببًا في رفع الدرجات، أو تكفيرًا للذنوب، أو وسيلة لتحقيق خير أعظم لا يُدركه الإنسان في حينه، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (سورة الزمر، الآية 10).
التحرر من حب الدنيا الزائد
حب الإنسان للدنيا قد يجعله يتعلق بأمور يراها خيرًا، لكنها قد تكون سببًا في هلاكه مثل المال أو السلطة أو الشهوات، وتُعلمنا الآية أن الخير لا يُقاس بما نحب أو نكره، وإنما بما أراده الله لنا.
التشجيع على التفاؤل والثقة بالله
الآية تبث الأمل في نفوس المؤمنين، حتى في أحلك الظروف. مهما ضاقت الدنيا بالإنسان، فإن وراء كل محنة منحة، ووراء كل ابتلاء حكمة عظيمة، وعلى المسلم أن يكون متفائلًا، لأن الله وعد بالفرج بعد الضيق، فقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (سورة الشرح، الآية 6).
التنبيه على القصور البشري في الحكم على الأمور
الإنسان بعقله المحدود، قد يحكم على الأمور بظاهرها، ولا يُدرك الحكمة الكاملة وراءها، وقال الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية: “الإنسان قد يُحب أمرًا فيه هلاكه، أو يكره أمرًا فيه نجاته، والله يعلم ما فيه الصلاح لعباده”.
عبودية التسليم لله
المؤمن الحق هو الذي يُسلم وجهه لله في كل أموره سواء فهم الحكمة أم لم يفهمها، وهذه العبودية الكاملة لله تجعله يرضى بكل ما يُقدره الله، لأنه يعلم أن الله أرحم به من نفسه، وقال الإمام ابن القيم: “الرضا باب الله الأعظم ومستراح العابدين، وجنة الدنيا”.
تحفيز المؤمن على بذل الجهد في الطاعات
الآية نزلت في سياق الحديث عن القتال، وهو أمر شاق على النفس. لكنها تُذكر المؤمن أن الخير في الطاعات، حتى وإن بدت شاقة، فالطاعات قد تُثقل النفس مثل الجهاد، أو الصيام، لكنها في النهاية تحمل الخير العظيم للمؤمن في الدنيا والآخرة.
الدعوة إلى الصبر على المكاره في العلاقات الإنسانية
قد يكون في الابتعاد عن شخص معين، أو فقدان علاقة، خير لا يعلمه الإنسان. أحيانًا يبعد الله عنا من يُسبب لنا الأذى دون أن ندرك ذلك.
تعزيز مفهوم التوكل على الله
الآية تُعلمنا أن نتوكل على الله في كل أمورنا، ونثق بأنه يُدبر الخير لعباده، والتوكل هو الاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب، مع اليقين بأن الله لا يُقدر إلا الخير.
تحذير من الإفراط في الحكم على الأشياء بالمظاهر
الإنسان قد يرى ظاهرًا مكروهًا، لكن الباطن يحمل الخير، فالآية تُحذر من الاعتماد على النظرة السطحية، وتُشجع على الثقة في حكمة الله.
بناء شخصية مؤمنة قوية
الآية تبني شخصية المؤمن المتوازنة التي لا تُهزم أمام المصائب، ولا تغتر بالنعيم، فالمؤمن يعرف أن الدنيا دار ابتلاء، وأن السعادة الحقيقية في طاعة الله والرضا بقضائه.
قصص واقعية ترتبط بآية {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}
شاب أنهى دراسته الجامعية بتفوق وكان يحلم بالحصول على وظيفة في إحدى الشركات الكبرى، وانتظر طويلًا لكن جميع محاولاته باءت بالفشل، وبدأ يشعر بالإحباط، خاصة مع ضغوط الحياة، وبعد أشهر من البحث، تلقى عرضًا لوظيفة بسيطة لا تتناسب مع مؤهلاته، وبعد فترة التقى أثناء عمله بأحد العملاء الذين أعجبوا بمثابرته وأخلاقه، فقدم له فرصة ذهبية للعمل في شركة عالمية بمنصب مرموق، فلو قُبل الشاب في الوظائف الأولى التي رغب فيها، لما حصل على هذه الفرصة الكبيرة، والحكمة كانت في الانتظار والعمل بما تيسر حتى جاء الخير الأعظم.
ورجل آخر استثمر جزءًا كبيرًا من أمواله في مشروع تجاري بدا واعدًا جدًا. بعد فترة قصيرة، خسر المشروع بسبب أزمة اقتصادية، فعاش الرجل حالة من الحزن واليأس، لكنه استغل ما تبقى من مدخراته لتطوير فكرة مشروع صغير خاص به، وحقق هذا المشروع الجديد نجاحًا كبيرًا وأصبح مصدر رزق مستدام، فالخسارة كانت طريقًا لتوجيهه نحو مشروعه الحقيقي، الذي لم يكن ليخطط له لولا تلك الخسارة.
وهناك امرأة عانت من زواج مليء بالمشاكل انتهى بالطلاق، وشعرت بالحزن لفترة طويلة، لكنها استغلت الوقت لتطوير نفسها، وأصبحت داعية تقدم محاضرات عن الصبر والإيمان في مواجهة الأزمات، فالانفصال الذي بدا كنكسة، كان بداية لحياة مليئة بالإنجازات والعطاء.
وهناك الكثير من القصص الواقعية في حياتنا التي تبين الحكمة من الآية الكريمة، وتوضح معناها.
وفي الختام، علينا أن نستحضر آية {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في كل خطوة نخطوها وفي كل ابتلاء نواجهه. فالله أرحم بنا من أنفسنا، وعلمه أوسع من علمنا، وحكمته أعظم مما نتصور، فلنكن من الراضين بحكم الله المطمئنين إلى تدبيره، الحامدين له في كل حال.
المصدر