لماذا سميت الكعبة بهذا الاسم؟،إذا ذُكر البيت انصرف القلب إلى بيت واحد؛ بيت عتيق صانته العناية، وجعلت له القلوب تهوي، والأقدام تحج، والعيون تفيض، غير أنَّ السؤال الذي يخطر على الذهن: لماذا سُمِّيت الكعبة بهذا الاسم بالذات؟ أهو شكلها؟ أم معناها اللغوي؟ أم دلالة شرعية أعمق تُحيل إلى وظيفتها في عمران الروح والعالم معًا؟.
سنتعرف في هذا المقال على المعنى اللغوي لأصل كلمة الكعبة، وشواهد القرآن والسُّنَّة والتفسير، فدعونا نتعرف عليها.
أصل كلمة كعبة على لسان العرب
أصلُ كلمة “كعب” في لسان العرب يدل على النتوء والارتفاع؛ ومنه كعبُ القدم، لأنه عظم ناتئ عند ملتقى الساق والقدم، وفي الاستعمال العربي يتَّسع المعنى لكل بارز مرتفع، وهذا الأصل يفسِّر تعبيرات دارجة مثل: “أعلى اللهُ كعب فلان” أي رفع شأنه ومجده، وهذه الحمولة الدلالية تُسعفنا في فهم تسمية الكعبة: بيت بارزٌ مرتفع معظم في الوجدان العربي قبل الإسلام وبعده.
وتشهد المعاجم الكبرى على هذا، فجاء في لسان العرب أن الكعبة سُمِّيت لارتفاعها وتربيعها، وكل بيت مربَّع عند العرب كعبة، وفيه أيضًا: “كعَّبت الشيء أي ربَّعته”، فالاسم يجمع بين الهيئة (التربيع) والصفة (العلو والبروز)، وهما معنيان يُطابقان المشاهَد من بناء البيت الشريف منذ أقدم العصور.
ويزيد معجم مقاييس اللغة الأمر إحكامًا؛ حيث يقرر ابن فارس أن الأصل الصحيح في “كعب” هو النتو والارتفاع، ويذكر أن الكعبة سُمِّيت “لنتوها وتربيعها”، وهو جمع بين صفة دائمة (العلو والظهور) وهيئة بنائية (التربيع).
🌟 لا يعني التربيع أن الكعبة اليوم مكعَّب هندسيّ مثالي كما في كتب الهندسة؛ فالكعبة تاريخيًّا تغيَّر في ارتفاعها، وتعرَّضت لإعادة بناء في أزمنة مختلفة، وبقي التربيع بمعناه العربي هيئة يغلب عليها الاستقامة من الجهات الأربع، لا الكمال الرياضي للمكعَّب.
الكعبة في القرآن
ورد اسم “الكعبة” صريحًا في القرآن في قوله تعالى: ﴿جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾ [سورة المائدة، الآية 97]؛ فهي قيامٌ للناس يقوم بها أمر دينهم وشعائرهم، وقد أجمع المفسرون على أنَّ “قيامًا” تتناول معاني الاستقامة، والقيام بأمر الناس، ومعلم الهداية.
وسُميت في القرآن أيضًا “البيت” على الإطلاق: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمْنٗا﴾ [سورة البقرة، الآية 125]؛ “مثابة” أي مرجعًا يعود إليه الناس ولا يشبعون منه، و”أمنًا” لأنًّ الله أمَّن حرمه، وهذه الإضافة تؤكِّد أن التسمية ليست مجرَّد شكل هندسي، بل وظيفة ربانية في الوجود.
وفي موضعٍ آخر: “البيت العتيق”: ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ﴾ [سورة الحج، الآية 29]؛ والعتيق عند كثير من المفسرين إما بمعنى المُعتَق من تسلُّط الجبابرة، أو القديم الشريف؛ وكلاهما يموَّه على معنى التعظيم والحرمة.
وقال سبحانه وتعالى في قريش: ﴿فَلْيَعْبُدُوا۟ رَبَّ هَٰذَا ٱلْبَيْتِ﴾ [سورة قريش، الآية 3]، وبيَّن الطبري أن المراد بالبيت الكعبة، مما يثبت أن الاسم القرآني “البيت” يكاد يكون مرادفًا معهودًا لاسم “الكعبة”.
أي أنَّ الكعبة اسم قرآني مُحكَم، يتساند مع أسمائها الأخرى (البيت، البيت الحرام، البيت العتيق)، وكلها تُحيل إلى مركزٍ جامع تتقاطع عنده قبلة الصلاة وموعد الحجّ وعهد الأمن.
أقوال المفسرين والعلماء في سبب تسمية الكعبة بهذا الاسم؟
لأنها مربعة
قال مجاهد وعكرمة: “إنما سميت الكعبة لأنها مربعة”، فالهيئة المربعة كانت مميزة في البيئة العربية القديمة.
لأنها بارزة مرتفعة
قال الفراء: “سميت كعبة لارتفاعها وبروزها”، وهو ما يوافق المعنى اللغوي للجذر.
للعلو والرفعة المعنوية
أشار بعض العلماء إلى أن الاسم لا يقتصر على شكلها، بل يرمز إلى رفعة شأنها وعظمة مكانتها في الإسلام.
الجمع بين المعنيين
ورجَّح ابن كثير وغيره أن التسمية تشمل الوجهين معًا، فهي مربعة الشكل ومرتفعة المكانة في آن واحد.
الدلالات الروحية والرمزية لاسم الكعبة
-
العلو لأنها رمز لعلو مقام التوحيد، حيث أنها قبلة الصلاة ومركز العبادة.
-
التربيع لأنه يوحي بالثبات والاستقامة، وكأنها مركز تلتقي عنده الجهات الأربع للعالم.
-
الظهور، فهي بارزة للناس، قائمة شاهدة على وحدانية الله منذ أن رفع قواعدها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
-
القداسة، فاسمها ارتبط بالبيت الحرام، فصار ذكرها كافياً لاستحضار حرمة الدماء والأنفس والأموال في محيطها.
أسماء أخرى للكعبة ودلالاتها
-
البيت: يدل على الأنس والسكن والملجأ.
-
البيت الحرام: يشير إلى الحرمة والمنزلة.
-
البيت العتيق: يدل على قِدمها ونجاتها من أيدي الطغاة.
-
القبلة: لأنها قبلة المسلمين في صلاتهم.
كل هذه الأسماء تكمل صورة الكعبة وتزيدها شرفًا ومكانة.
🌟تسمية الكعبة بهذا الإسم ليست من “كعب القدم” بمعناه المباشر، بل لاشتراكهما في الجذر الدال على الارتفاع والنتوء، والاسم قديم عرفه العرب قبل الإسلام، ثم جاء القرآن فأقرَّه وزاد من قدسيته.
في الختام، بعد أن تعرفنا على لماذا سميت الكعبة بهذا الاسم؟، نجد أن الكعبة المشرَّفة لم تُسمَّ بهذا الاسم عبثاً، بل حملت في لفظها سرًّا من أسرار عظمة هذا البيت المبارك؛ فهي مربعةٌ في هيئتها، عاليةٌ في مكانتها، شاهدة على توحيد الله منذ أن رفع قواعدها إبراهيم الخليل عليه السلام، ولقد اجتمع في اسمها التربيع والارتفاع والرفعة، فصار عنوانًا لقدسيتها، ورمزًا لوحدة المسلمين في صلاتهم وحجهم ومناسكهم.
وكلما ردد المؤمن اسم الكعبة استشعر في داخله أن الأمر يتجاوز مجرد بناء حجري، ليصل إلى حقيقة إيمانية عميقة أن هذا البيت هو مركز الأرض، وقبلة العباد، ومهوى الأفئدة، فإنه بيت الله العتيق الذي لن تزول قدسيته ما دامت السماوات والأرض.
فلنستحضر دائمًا حين نتحدث عن الكعبة أنَّها ليست بناءً مربَّعًا فقط، وإنما هي مفتاح الارتباط بين الأرض والسماء، ورمز خالد لوحدة الأمة الإسلامية في وجهتها وعبادتها، وهكذا تتجلَّى عظمة التسمية، فكما أن الكعبة مركز الدنيا، فإنَّ اسمها مركز لمعان لا تنقضي، وأسرار لا يمل المؤمن من التفكر فيها.
المصدر