حليمة السعدية مرضعة الرسول ﷺ/ سيرتها، وفضلها، وهل أسلمت؟
هل أسلمت حليمة السعدية مرضعة الرسول ﷺ؟
حليمة السعدية، لا تُسطر البطولات العظيمة دائمًا في زوايا التاريخ المضيئة بالسيوف ولا تُنقش الأمجاد كلها على جدران القصور، فأحيانًا يكفي قلبٌ مُحب، وذراعان يحتضنان الطهر، وقطرات لبن تسري إلى فمٍ صغير سيغدو يومًا نبي هذه الأمة وسيد ولد آدم، ففي مضارب بني سعد ولدت قصة استثنائية لامرأة لم تكن ملكة، لكنها نالت من الشرف ما لم تنله ملكات الأرض؛ إنها حليمة السعدية، التي لم تكتفِ بأن تكون مرضعة النبي ﷺ، بل كانت حضنًا أولًا لرحمة الله المهداة.
حليمة السعدية لم تكن اسماً يُذكر عرضًا في كتب السيرة، بل هي إحدى ملامح طفولة النبوة، وسطورها الأولى، حيث كانت يداها أول من حملت النور، وكان صدرها أول من أذاقه دفء الحنان بعد فقدان الأب، وكان بيتها البدوي أول بيت تنفَّس فيه النبي ﷺ فصاحة العرب وكرامة النفس.
سنقدم في هذا المقال تفاصيل سيرة امرأة اختارها الله لحكمةٍ بالغة، ونكشف فضلها، ونتتبع آثار خطاها، لنجيب على سؤال لطالما راود الأذهان: هل أسلمت حليمة السعدية؟ وهل أدركت بعينها النور الذي أرضعته يومًا صغيرًا فعاد إليها نبيًا مكرَّمًا؟
هي رحلة بين الأمومة ونور النبوة، بين الصحراء والسماء، فلتكن معنا.
من هي حليمة السعدية؟
اسمها الكامل حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جُندل السعدية، من قبيلة بني سعد بن بكر، وهم بطن من هوازن.
اشتهرت بكنيتها أم عبد الله نسبة إلى ابنها الذي رضع معه رسول الله ﷺ وكان أخًا له من الرضاعة.
تُعرف العرب قبيلة بني سعد بالفصاحة والبلاغة، وكانت العادة أن أهل مكة يرسلون أبناءهم إلى البادية ليشبُّوا في بيئة نقية، ويتعلموا الفصاحة والنجابة، ويقووا أجسادهم بعيدًا عن أمراض المدن وازدحامها.
قصة حليمة السعدية مع النبي ﷺ
خرجت حليمة مع نسوة من بني سعد إلى مكة في عامٍ أصابتهم فيه المجاعة والقحط على أمل أن تجد رضيعًا ترضعه لقاء أجر، فكانوا يعولون على ذلك في كسب الرزق، وكانت دابَّتها ضعيفة، وحالها بائس، تقول كما روى ابن إسحاق في “السيرة النبوية”: “خرجت في نسوة من بني سعد نلتمس الرضعاء، ومعي زوجي، ومعنا دابتنا الشهباء، فوالله ما بقي منا أحد إلا وقد عُرض عليه رسول الله ﷺ، فتأباه، إذ كان يتيمًا، فكنا نقول: وما عسى أن تصنع لنا أمه؟”.
لم تقبله المرضعات لأنه يتيم الأب، فهنَّ يُفضِّلن الأطفال الذين لهم آباء أغنياء يطمعن بأجرٍ أكبر، لكن لمَّا لم تجد حليمة غيره عادت إليه تقول: “فقلتُ لزوجي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صاحباتي ولا آخذ شيئًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فذهبت فأخذته، وما هو إلا أن حملته إلى حجري حتى درَّ ثدياي لبنًا”، وهنا بدأت بركات النبي ﷺ تفيض.
بركة رسول الله ﷺ في بيت حليمة السعدية
روت حليمة السعدية في حديثها عن استقبالها للنبي ﷺ، أن الحال قد تغيَّر منذ أن دخل محمد ﷺ بيتها، فكانت لا تجد في ثديها لبنًا لابنها، فلما وضعت محمدًا ﷺ على صدرها، أدرَّ اللبن حتى شبع، ثم شرب أخوه من الرضاعة حتى شبع، وقبل أن تحمل النبي ﷺ كانت نياقهم لا تدر، ولكن بعدما جاء معهم إلى بيتهم، عادت الناقة تدرُّ اللبن، حتى أن القافلة كلها كانت تعجب من سرعة دابتهم بعد أن كانت الأبطأ، وتقول حليمة: “فلمَّا قدمنا منازلنا في بني سعد، ما أعلم أرضًا من أرض الله أخصب من أرضنا. كانت غنيماتنا تروح علينا شباعًا لبنًا، ونحلب ونشرب، والناس جياع لا يجدون شيئًا”.
مكث النبي ﷺ عند حليمة ما يقرب من أربع سنوات، حتى وقعت حادثة مشهورة تُعرف بـ حادثة شق الصدر، فقد جاءه ملكان من السماء، فشقا صدره واستخرجا منه علقة سوداء، وقالا: “هذا حظُّ الشيطان منك”، فخافت حليمة وزوجها عليه، فحملوه إلى أمه في مكة، وهنا انتهت مرحلة الرضاعة، وبدأ فصل جديد في سيرة النبي ﷺ.
هل أسلمت حليمة السعدية؟
هذا هو السؤال الأبرز الذي يشغل الباحثين وطلاب العلم: هل أدركت حليمة السعدية الإسلام؟ وهل أسلمت؟.
تواترت الروايات عند عدد من المحدثين والمؤرخين تفيد بأن حليمة أدركت بعثة النبي ﷺ وأسلمت، بل وجاءت إليه زائرة في المدينة.
روى الإمام البيهقي في “دلائل النبوة”، والطبراني في “المعجم الكبير”، عن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: “جاءت حليمة السعدية إلى النبي ﷺ في المدينة، فبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، وأكرمها، وأسلمت، ورجعت إلى قومها”.
وفي رواية أخرى أن النبي ﷺ ابتسم وقال لأصحابه: “هذه أمي، هذه أمي”، حين رآها قادمة عليه.
كما نقل ابن حجر في “الإصابة” عن الواقدي أنه قال: “أسلمت حليمة وأهلها، وقدموا على رسول الله ﷺ، فأكرمهم غاية الإكرام”.
وعلى هذا فإن أهل العلم رجَّحوا إسلامها، لا سيما أن هذا كان في المدينة المنورة، وقد مدَّ النبي ﷺ لها رداءه، وأعطاها من عطائه.
مكانة حليمة السعدية في قلب النبي ﷺ
لم يكن النبي ﷺ ينسى المعروف، ولم يكن ينكر الفضل، فكان يُجل حليمة السعدية ويعظمها، وكان يفتخر بأنه رضع منها، ويذكر قومها بالخير، وذلك يدل على مدى تأثره ببيئة حليمة، واعتزازه بها، خاصة بما غرسته فيه من فصاحة ولسان عربي مبين.
مكانة بني سعد عند المسلمين
لقد حظيت قبيلة بني سعد بن بكر بشرفٍ عظيم حين اختار الله منهم مرضعة لنبيه ﷺ، ولذلك بقي اسمهم يُذكر بالخير في كتب السيرة والحديث.
قال الإمام النووي: “وقد ثبت أن النبي ﷺ حفظ لهم المعروف، وأوصى بهم، وكان يُكرم من يأتيه من قوم حليمة”.
كم عامًا رضع النبي ﷺ من حليمة السعدية؟
رضع النبي محمد ﷺ من حليمة السعدية حولين كاملين، حولان بلغا الكمال، ولم تكن هذه الرضاعة مجرد غذاءٍ للجسد، بل كانت غرسًا للصفاء، وبذرة للفصاحة، ومدرسة للرجولة المبكرة في أحضان الصحراء حيث صفاء اللغة، وسمو المعاني، وسمت الخلق.
فلما انقضى العامان عادت حليمة بالنبي ﷺ إلى أمه آمنة بنت وهب لتفي بوعدها، ولكن قلبها لم يطاوعها أن تفارقه، فرجتها أن تدعه معها قليلاً، فلم تمانع الأم، وقد رأت البركة التي أحاطت بابنها منذ أن حملته هذه المرأة الطيبة.
فأقام عند حليمة بعد الرضاعة ما يُقارب السنتين، فعاش في بادية بني سعد أربع سنواتٍ كاملة، عامان للرضاعة، وعامان للمحبة والرعاية، حتى أعادته إليها نهائيًا بعد حادثة شق الصدر التي أقلقت قلبها وأرعبت فؤادها.
وما بين صدر حليمة الذي أدرَّ لبنًا لم يكن يدر، وغنمها التي كانت تروح شباعًا حين يروح الناس جياعًا، ودابتها التي سبقت الركب وقد كانت تتأخر، فكانت البركة تمشي بين أيديهم، في هيئة طفل صغير اسمه محمد، ولكنه ليس كأي محمد.
لقد أرضعته حليمة عامين، ولكنَّه رضع معها من حنانها، وصبرها، وبدويَّتها، ما جعله فتيًا يتحدث بفصاحة، ويفكر بحكمة، ويهز القلوب بنظرة، قبل أن ينطق بكلمة.
وما يزال التاريخ يذكرها بهذا الشرف، وما تزال قلوب المسلمين تخفق حين تُذكر حليمة، إذ كانت أول قلب دنيوي احتضن رسول السماء ﷺ.
وفاة حليمة السعدية ودفنها
تُوفيت حليمة السعدية بعد العام الثامن للهجرة، أي في حدود 9 هـ، وكان ذلك في المدينة المنورة، ودفنت في مقبرة البقيع (البقيع الغرقد) بالمدينة.
في الختام، نجد أن حليمة السعدية لم تكن مجرد مرضعة للنبي ﷺ، بل هي صفحة مشرقة في تاريخ الإسلام نُقشت عليها معاني البركة، والإيثار، والتكريم الإلهي، ولقد نالت شرفًا لا يُضاهيه شرف، بأن أرضعت خير البشر، ونشَّأته في بادية الطهر والفصاحة، وسيبقى اسمها يتردد في القلوب، لا لمجرد ارتباطها بالنبي ﷺ، بل لأن الله اختارها لتكون وعاءً لأول نفحات النبوة، فكانت من أوائل الحاضنات لنور الرسالة.
المصادر