إعرف دينكقصص الصحابة

سيرة أبي هريرة رضي الله عنه/ حافظ السنة النبوية وإمام الرواة

سيرة أبي هريرة رضي الله عنه/ حافظ السنة النبوية وإمام الرواة

من هو أبي هريرة رضي الله عنه؟

 في تاريخ الإسلام رجال اختارهم الله لأدوار عظيمة، لا تقوم الدعوة إلا بهم، ولا يكتمل البناء إلا على أكتافهم، ومن بين هؤلاء جميعًا، يبرز اسم فريد لم يُعرف بكثرة المال، ولا بعظيم الجاه، ولا بسطوة السلطان، وإنما عُرف بشيءٍ أعظم ألا وهو حفظ سنة رسول الله ﷺ إنه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه.

ذلك الرجل الذي دخل الإسلام متأخرًا، لكنه سبق غيره بما وهبه الله من صدق النية، وقوة الحفظ، وبركة الملازمة، حتى صار أكثر الصحابة رواية للحديث، وحلقة الوصل الكبرى بين الأمة ونبيها ﷺ، وما من مسلمٍ اليوم يقرأ حديثًا، أو يعمل بسنة، أو يسمع موعظة، إلا ولأبي هريرة رضي الله عنه فيها أثر، ولذكره فيها نصيب.

سيرة أبي هريرة رضي الله عنه

لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه يعلم، وهو يرعى الغنم في جبال اليمن، فقيرًا بسيطًا لا يملك من الدنيا إلا ثوبه وقلبه أن اسمه سيُكتب يومًا بأحرفٍ من نور في سجل الخالدين، وأن صوته سيبقى مسموعًا في مساجد الأرض إلى قيام الساعة، كلما قال إمام: قال رسول الله ﷺ.

إنها سيرة رجلٍ لم يصنعه النسب، ولا المال، ولا الجاه، بل صنعه الإخلاص، ورفعه العلم، وخلَّده الصدق مع الله.

مولده ونشأته

وُلد أبو هريرة رضي الله عنه في أرض اليمن، من قبيلة دوس، تلك القبيلة التي عُرفت بالحكمة وسلامة الفطرة، وقد أسلم منها عدد من الصحابة، أشهرهم الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه.

وكان اسمه في الجاهلية مختلفًا فيه، واتفق جمهور أهل السِّيَر على أن اسمه بعد الإسلام هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، أما اسمه في الجاهلية، فقد وردت فيه أقوال متعددة، أشهرها (عبد شمس – عبد عمرو – عبد نهم)، ولا يترتب على هذا الخلاف حكم، حيث أن النبي ﷺ هو الذي سمَّاه عبد الرحمن، وهذا هو المعتمد.

نشأ أبو هريرة رضي الله عنه فقيرًا يعمل راعيًا للغنم يخرج بها في الصباح، ويعود بها عند المساء، لا يسمع من أخبار الدنيا إلا صدى الأسواق، ولا يرى من الحياة إلا تعب الكدّ، لكن قلبه كان حيًا، وفطرته نقية، وكان للفقر في حياته أثرٌ عجيب؛ حيث علَّمه الصبر، وعلَّمه القناعة، وهيَّأه لحمل العلم.

سبب كنيته بأبي هريرة رضي الله عنه

سبب كنيته ثابت عنه هو، وليس اجتهادًا من المؤرخين، حيث قال أبو هريرة رضي الله عنه – كما روى عبدالله بن رافع والذهبي بسند حسن –: «كُنْتُ أَرْعَى غَنَمَ أهلِي وكانَتْ لي هُرَيْرَةٌ صَغِيرَةٌ فَكُنْتُ أَضَعُها بِالليلِ في شجرةٍ فإذا كان النَّهارُ ذَهَبْتُ بِها مَعِي فَلَعِبْتُ بِها فَكَنَّوْنِي أبا هريرةَ».

إسلامه ولقاؤه بالنبي ﷺ

ظل أبو هريرة على حاله حتى قدم إلى قومه الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي داعيًا إلى الإسلام، فدخل الإيمان قلب أبي هريرة رضي الله عنه دون تردد، فكان من السابقين من قومه.

وفي السنة السابعة للهجرة شد رحاله إلى المدينة، قاصدًا رسول الله ﷺ، فوافق قدومه غزوة خيبر، وهناك رأى النبي ﷺ، فكانت تلك اللحظة فاصلة، وكأن قلبه وجد ضالته التي كان يبحث عنها.

منذ تلك اللحظة، لم يعد أبو هريرة كما كان، لقد تغيَّرت حياته جذريًا، واتخذ قرارًا لم يتخذه غيره بهذه الصورة ألا وهو أن يلازم النبي ﷺ ملازمة الظل لصاحبه.

حياته مع أهل الصُّفَّة

دخل أبو هريرة في عداد أهل الصُّفَّة، أولئك الفقراء الذين سكنوا المسجد النبوي لا بيوت لهم ولا أموال، وينامون حيث يُذكر الله، ويصحون على صوت القرآن.

كانت أيامه قاسية، حتى إنه كان يسقط مغشيًا عليه من شدة الجوع، فيظن الناس به الجنون، وما به إلا ألم المعدة الخاوية.

ومع ذلك، لم يُعرف عنه شكوى، ولا تبرُّم، بل كان يرى في ذلك نعمة؛ لأن هذا الفقر هو الذي حرَّره من شواغل الدنيا، فامتلأ قلبه بالعلم.

قال رضي الله عنه بصدقٍ يقطع ألسنة المشككين: “إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم، وكنت ألزم رسول الله ﷺ على ملء بطني”، وهنا نفهم السر لم يكن أكثرهم رواية لأنه أذكى، بل لأنه أكثرهم ملازمة للنبي ﷺ.

معجزة الحفظ

كان أبو هريرة يسمع الحديث، ثم يخشى أن ينساه، فشكا ذلك إلى النبي ﷺ، في مشهدٍ من أعظم مشاهد السيرة، فطلب منه النبي ﷺ أن يبسط رداءه، ثم دعا له، وضمه إليه، فكانت تلك اللحظة ولادة حافظ السنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قُلتُ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أسمعُ منكَ أشياءَ لا أحفَظُها ، قال : ابسُطْ رداءَكَ فبسَطتُهُ ، فحدَّثَ حديثًا كثيرًا فما نسيتُ شيئًا حدَّثَني بهِ”  (أخرجه البخاري والترمذي).

بعدها لم يُعرف عن أبي هريرة رضي الله عنه نسيان حديث واحد. لا لأنه خارق بطبيعته، بل لأن الله أكرمه بدعاء نبيَّه ﷺ، ومنذ تلك اللحظة صار أبو هريرة وعاءً للسنة يمشي بين الناس، ويحفظ، ويعلِّم، ويبلِّغ.

أبو هريرة رضي الله عنه والحديث

روى أبو هريرة أكثر من خمسة آلاف حديث، ومع ذلك كان أشد الناس خوفًا من الكذب على رسول الله ﷺ، وكان يقول: “إنَّ النَّاسَ يقولونَ أكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ، ولَوْلَا آيَتَانِ في كِتَابِ اللَّهِ ما حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والهُدَى} [البقرة: 159] إلى قَوْلِهِ {الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]”، فلم يكن أبو هريرة يبحث عن شهرة، ولا تصدُّر، بل كان يرى نفسه مُحمَّلًا بأمانة ثقيلة.

فقهه ومكانته عند الصحابة

لم تكن حياة أبي هريرة رضي الله عنه مجرد ناقل، بل كان فقيهًا يُفتي، ويُدرِّس، ويقضي، كما شهدت أيضًا تحمُّله لمسؤوليات عامة في دولة الإسلام الناشئة، ومن أبرزها توليته ولاية البحرين في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب، وابن سعد في الطبقات الكبرى أن عمر رضي الله عنه استعمل أبا هريرة على البحرين، وهو اختيار لا يصدر من عمر إلا لمن عرف عنه العدالة والأمانة وحسن الدين، حيث كان شديد التحري في ولاته، لا يولي إلا من وثق بدينه قبل كفاءته.

وقد اشتهرت قصة محاسبة عمر لأبي هريرة على ما ظهر عليه من مال، وهي قصة صحيحة في أصلها، غير أن كثيرًا ما أسيء فهمها، فقد سأله عمر عن مصدر ماله، فبيَّن أبو هريرة رضي الله عنه أنه من عطايا مشروعة وخيل نتجت، ولم يثبت عليه شيء من خيانة أو اختلاس، كما قرر ذلك أهل العلم، ولم تكن شدة عمر في مساءلته طعنًا في أبي هريرة، بل كانت من منهجه المعروف في محاسبة عمَّاله، وقد فعل مثل ذلك مع غيره من كبار الصحابة.

والدليل الأوضح على براءة أبي هريرة ومكانته عند عمر أن أمير المؤمنين عرض عليه الولاية مرة أخرى بعد عزله، غير أن أبا هريرة أبى، لا زهدًا في خدمة المسلمين، ولكن خوفًا من الفتنة، ومهابةً للمسؤولية، قائلاً إنه يخشى أن يقول بغير علم، أو أن يُؤخذ بغير حق، وقد عد العلماء هذا الموقف شاهدًا على ورعه، لا سببًا في ريبة، كما قال الذهبي وابن حجر، وهكذا تبقى ولاية أبي هريرة للبحرين صفحة ناصعة في سيرته تدل على عدله، وصدق أمانته، وشدة تحرِّيه فيما يُحمَّل من أمر المسلمين.

صفات أبي هريرة رضي الله عنه

  • كانت أبرز صفات أبي هريرة رضي الله عنه وأشهرها على الإطلاق قوةُ الحفظ وسرعةُ الضبط، وقد ثبت ذلك بدعاء النبي ﷺ له، كما في صحيح البخاري ومسلم، حين دعا له ألا ينسى شيئًا مما يسمع منه، وقد شهد له كبار العلماء بذلك، فقال الإمام الشافعي: «أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره»، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: «الإمام الحافظ، صاحب رسول الله ﷺ».
  • تميَّز أبو هريرة رضي الله عنه بملازمة النبي ﷺ ملازمةً تامَّة، فكان لا يكاد يفارقه يسمع حديثه في السفر والحضر، في الرضا والغضب، بخلاف غيره ممن شغلتهم التجارة أو شؤون الأهل، وقد صرَّح هو بذلك في صحيح البخاري، فكانت هذه الملازمة من أعظم أسباب كثرة روايته.

  • كان شديد التحرُّج من الكذب على رسول الله ﷺ، ويصرِّح بأنه لولا وجوب تبليغ العلم لما حدَّث، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾، وقد أجمع أهل الحديث على عدالته، واحتج به الشيخان، وهو أعلى مراتب التوثيق.

  • عرف عن أبي هريرة رضي الله عنه الزهد والقناعة، فقد عاش فقيرًا في الصُّفَّة، وربط الحجر على بطنه من الجوع، ولم تغيِّره الولاية حين ولي البحرين، بل ازداد خوفًا من الله، حتى إنه أبى أن يعود إلى الإمارة حين عرضها عليه عمر، خشية الفتنة، وقد ذكر ذلك ابن سعد وابن عبد البر.
  • كان من أهل القيام والصيام والذكر، ويقسم الليل بينه وبين زوجته وخادمه، لا يخلو وقتهم من عبادة، كما ذكر ابن سعد في الطبقات، وكان كثير البكاء عند ذكر الآخرة، شديد الخوف من الحساب.

  • على كثرة علمه لم يكن متعاليًا ولا متصدرًا بغير حق، بل كان ليِّن الجانب، قريبًا من الناس، يعلم الصغير قبل الكبير، ولا يحتقر أحدًا، وقد انعكست هذه الصفة في أسلوبه في التعليم والرواية.

  • اتصف رضي الله عنه بسلامة الصدر ولين القلب، وهي صفات لازمت شخصيته منذ نشأته، وظهرت في رحمته بالحيوان، وفي تواضعه مع الناس، وفي قربه من عامة المسلمين، حتى صار مجلسه مأوى للمتعلمين، لا يُقصي أحدًا ولا يرفع نفسه فوق الناس، وقد ذكر ابن عبد البر أن أبا هريرة كان حسن المجالسة، بشوش الوجه، قريب الألفة.
  • كان رضي الله عنه سريع العبرة، حاضر القلب، يتأثر بالقرآن والموعظة، ويكثر من ذكر الموت والآخرة، حتى وصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء بأنه كان كثير البكاء، شديد الخوف من الحساب، مع دوام الذكر والعبادة، ولم يكن ذلك تكلّفًا، بل أثرًا ظاهرًا لما حمله من علمٍ عن رسول الله ﷺ.

وفاة أبي هريرة رضي الله عنه

اتفق جمهور أهل السِّير والتراجم على أن أبا هريرة رضي الله عنه تُوفي في المدينة المنورة بعد حياة حافلة بالعلم والعبادة وخدمة السنَّة، وقد كان ذلك في سنة سبع وخمسين للهجرة (57 هـ) على القول الأرجح، وهو القول الذي رجَّحه ابن عبد البر وابن حجر والذهبي، وإن وُجد قول آخر ضعيف يجعل وفاته سنة ثمانٍ وخمسين، إلا أن المعتمد عند أكثر المحققين هو الأول.

وقد بلغ أبو هريرة رضي الله عنه من العمر نحو ثماني وسبعين سنة، وقيل: دون ذلك بقليل، ولم يُنقل عنه مرضٌ مخصوص، وإنما أدركته المنية على كِبَر بعد أن أدَّى الأمانة وبلَّغ ما سمع عن رسول الله ﷺ، وذُكر أنه لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: لبُعد السفر، وقِلَّة الزاد، ومهاوي جهنم، وهي كلمة تعكس عمق خوفه من الله، وكمال وعيه بلقاء الآخرة.

وصُلّي عليه في المدينة، وقيل إن الذي صلى عليه هو الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان يومئذٍ والي المدينة، ودُفن رضي الله عنه في بقيع الغرقد، حيث دُفن أكثر الصحابة الكرام، فكان ختام حياته بجوار من عاش بينهم، ونشر علمهم، وحمل ميراث نبيه ﷺ.

وقد رثاه أهل المدينة، وعد العلماء وفاته خسارة عظيمة للأمة، لما كان له من أثرٍ بالغ في حفظ السنَّة النبوية ونقلها، حتى قال الذهبي: «مات أبو هريرة، وقد ملأ الدنيا حديثًا، وعلمًا، وأثرًا».

الخاتمة

وهكذا تمضي سيرة أبي هريرة رضي الله عنه شاهدة على أن الله إذا اصطفى عبدًا لخدمة دينه، هيَّأ له الأسباب، وفتح له الأبواب، وخلَّد ذكره في القلوب قبل الكتب، فلم يكن أبو هريرة رضي الله عنه صاحب سلطان ولا ثراء، لكنه كان صاحب أمانة، حمل حديث رسول الله ﷺ بقلبٍ واعٍ، ونقله بصدقٍ وخشية، فصار اسمه مقرونًا بالسنة، وذكره ممتدًا ما امتدّ الزمن.

لقد عاش أبو هريرة رضي الله عنه زاهدًا في الدنيا، عظيمًا في العلم، ثابتًا على الحق، لا يطلب من الناس جزاءً ولا شكورًا، وإنما يرجو ثواب الله وخشية الحساب، فكان مثالًا للعالم العامل، والراوي الأمين، والصحابي الذي صدق ما عاهد الله عليه، فرفعه الله بصدقه، وجعل أثره باقيًا في الأمة إلى قيام الساعة.

وما أحوج المسلمين اليوم إلى التأمل في سيرة أبي هريرة رضي الله عنه، لا بوصفها صفحات من التاريخ، بل مدرسةً في الإخلاص، وحسن التعلُّق بالسنة، وتحمل المسؤولية، والخوف من الله مع كثرة العمل. رضي الله عن أبي هريرة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به تحت لواء نبينا محمد ﷺ، وحشرنا في زمرة الصادقين من أصحابه الكرام.

المصدر

1، 2، 3

زر الذهاب إلى الأعلى
Index