حديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”… الأربعين النووية 12
تعرف على حديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" والدروس المستفادة
حديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”، حين يربيك النبي ﷺ بكلمة ي زمن امتلأ بالضجيج، وامتهن كثير من الناس الفضول، وأصبح التدخل في شؤون الغير من المباحات يأتي الحديث الثاني عشر من الأربعين النووية للنبي ﷺ كدواء ناجع، ومنهج حياة، ومرآة يراجع فيها المؤمن نفسه في كل تصرف.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” [رواه الترمذي (2317) وقال: حديث حسن، ورواه ابن ماجه (3976)، وأحمد، وغيرهم. وصححه النووي في “الأربعين”، وحسَّنه الألباني في “صحيح الجامع” (5911)] .
حديثٌ وجيز، لكنه يُربِّي أمة، وقصير في ألفاظه عظيم في أثره، فكيف يكون ترك ما لا يعنيك من حسن الإسلام؟ وما هي أبعاده الاجتماعية والتربوية؟ وما الذي أراده النبي ﷺ حين نطق به؟ هذا ما سنعرفه في هذا المقال بإذن الله.
معنى حديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”
“من حسن إسلام المرء”
أي أن كمال الإسلام لا يتحقق فقط بإتيان الفرائض وترك المحرمات، بل يظهر جماله في الأخلاق والآداب، فالإمام النووي رحمه الله يقول: “هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الأدب”، فليس الإسلام مجرد أداء للصلاة والصيام، بل هو تهذيب للنفس، وتحكيم للعقل، وتطهير للسان والقلب.
“تركه ما لا يعنيه”
أي امتناعه عن التدخل فيما لا يخصه، ولا يفيده، ولا يُطلب منه، سواء كان ذلك في القول أو الفعل أو حتى التفكير، والحافظ ابن رجب في “جامع العلوم والحكم” (ص 240) قال: “معنى لا يعنيه: أي لا يتعلق به ولا يكون له فيه مصلحة دينية ولا دنيوية”، فالمسلم الكامل هو من يشغل نفسه بما ينفعه، ويبتعد عن القيل والقال، والتطفل، والفضول، والتدخل فيما لا يُطلب منه.
منزلة حديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” بين أحاديث التهذيب
يُعد هذا الحديث من جوامع الكلم، وهو أصل في تقويم السلوك الفردي والاجتماعي، وقد ذكره الإمام النووي ضمن الأربعين لما له من أثر في تهذيب النفس، وأكد العلماء أن الحديث يصلح أن يكون ميزانًا يُوزن به سلوك الإنسان اليومي، وهو من علامات الفهم الحقيقي للدين، لأن من لم يحسن ترتيب أولوياته، ضيَّع نفسه، وابن المبارك قال: “سمعت مالِكًا يقول: لا يصلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه، فإذا كذلك أوشك أن يفتح الله في قلبه”.
تطبيقات لحديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” في حياة المسلم
لا يتدخل المرء في خصوصيات الغير إلا إن طلب منه ذلك، ولا يُعلِّق على حياة الآخرين، ولا يقتحم عوراتهم تحت غطاء النصيحة، كما يجب عليه ألا ينشر أخبارًا لا تخصه، ولا ينقل كلامًا لا يزيده علماً ولا ينفع غيره.
كما على المرء أن يركِّز على أداء مهامه، لا على أخطاء زملائه، ولا تضيِّع وقته فيما لا يثقل ميزانه، ولا يفيد مستقبله، ويجعل كل طاقته فيما هو مسؤول عنه، لا فيما يفعله الآخرون.
حديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” في ضوء القرآن الكريم
يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [سورة المؤمنون، الآية 3]، فلا يكون الحديث إشاعة، أو تتبعًا لعبث الأيام، وحين يترك الإنسان الخطأ، فهو ينصرف إلى الخير الحقيقي، فالملائكة تُسجل كل كلمة، وترك الكلام الفارغ عبادة.
أقوال السلف حول حديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”
-
قال ابن الجوزي: “العاقل من لا يشتغل إلا بما يُفضي به إلى الفوز”.
-
وقال إبراهيم بن أدهم: “إذا رأيت الرجل يتكلم فيما لا يعنيه، فاعلم أنه قد قلَّ عمله”.
-
وقال الإمام أحمد: “ترك ما لا يعنيه دليل على ورع المرء”.
أثر الحديث على حياة المسلم
- تهذيب النفس وتزكية القلب، فهذا الحديث يجعل المسلم في حالة مراقبة دائمة لنفسه قبل أن يتكلم، قبل أن يعلِّق، قبل أن يخطو أو يستمع، ويسأل قلبه: هل هذا من شأني؟، هل سيقربني من الله؟، هل سينفعني في دنياي أو أُخراي؟، فهو يزرع في القلب أدبًا داخليًا رفيعًا يُبعد النفس عن التطفل والفضول، ويجعلها منشغلة بذاتها وإصلاحها بدلًا من مراقبة الناس، قال سفيان الثوري: “النجاة في أن لا تتكلم في ما لا يعنيك، وأن لا تتكلم في ما يعنيك حتى تجد له موضعًا”.
-
راحة البال وسكينة القلب، فمن يعيش بهذا الحديث، يَسلم من هم لا يعنيه، ونقاش لا يُجديه، وتتبع لا يُغنيه، ويترك المبالغة في الاطلاع على أخبار الناس، وينجو من ضغط مقارنة النفس بالآخرين، ويكف قلبه عن القلق بما ليس في يده، ولذلك يُورثه الحديث طمأنينة داخلية، وكأن لسان حاله: “ربي… لا أريد أن أعرف إلا ما يفيدني، ولا أن أنشغل إلا بما تحبه لي”.
-
نقاء اللسان وصفاء العلاقات، فاللسان منبع كثير من الفتن، وقد قال النبي ﷺ: “وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟”، فمن أثر هذا الحديث العظيم على المسلم أنه يكف لسانه عما لا ينفع، فلا يتكلم في أعراض الناس، ولا يخوض في أحاديث المجالس لمجرد التسلية، ولا يدخل في نقاشات لا تُضيف له خيرًا، وهذا الصمت النبيل، يُثمر علاقات أنقى، وقلوبًا أنظف، وبيئة إيمانية أكثر وُدًّا ورحمة.
-
وضوح البوصلة وضبط الأولويات، فحين يفهم المسلم هذا الحديث، يصبح قادرًا على ترتيب أولوياته بشكل دقيق يُدرك أن كل دقيقة من عمره مسؤول عنها، ويميِّز بين “ما يهمَّه” و”ما لا يعنيه”، فلا يشتت نفسه في متابعة أخبار المشاهير، أو التدخل في مشاكل لا تخصه، أو نقد ما لا يُطلب منه، وبهذا يتعلَّم فن التركيز على ما ينفعه ويقوده إلى الجنة.
-
ترسيخ الورع الحقيقي، فالورع ليس في ترك الحرام فقط، بل أن تدع المباح الذي لا ينفعك خشية أن يُضيع وقتك، أو يُقسي قلبك، وهذا الحديث يُربِّي المسلم على الورع الدقيق، فيصير زاهدًا فيما لا يُغنيه، حريصًا على ما يُزكِّيه، متجنبًا ما يُثقل ميزانه بما لا يفيد، ويقول ابن القيم: “علامة سعادة العبد: أن يكون شغله فيما يعنيه ويُقرِّبه إلى الله”.
-
بناء مجتمع متماسك ومتزن، فعندما ينتشر هذا الحديث في مجتمعٍ ما، تنحسر الفتن، وتخبو الغيبة، ويختفي التطفل، ويعم السَّتر، والكل ينشغل بنفسه، ويتعامل مع غيره بحكمة واحترام للخصوصية، ويتحدث حيث يجب، ويصمت حيث يلزم، وبذلك يكون الحديث قاعدة ذهبية لـنقاء المجالس، وراحة النفوس، ونجاة الأمة من شرور اللسان والفضول.
-
قوة في الشخصية ونضج في التعامل، فالحديث يجعل المسلم صاحب كرامة ووقار؛ لأنه لا يُلقي بنفسه في كل حديث، ولا يمد أنفه في كل شأن، بل يتصرف بثقة، ويتحدث إذا دُعي للكلام، ويتجنب اللغو، وتزرع هذه الصفات في قلبه اتزانًا في شخصيته، وهيبة في نظرة الآخرين إليه، ووقارًا يُشبه وقار الصالحين.
الدروس المستفادة من حديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”
- الإسلام ليس إقامة للعبادات فحسب، فيكشف هذا الحديث أن حسن الإسلام لا يُقاس فقط بالعبادات الظاهرة، بل بكمال الأخلاق، ونقاء القلب، وضبط اللسان، فالمسلم الكامل لا ينشغل إلا بما ينفعه، ولا يخوض فيما لا يُخصه، ومن هنا السكوت عما لا يعنيك هو عبادة بحد ذاته.
-
الترك عبادة والسكوت نور، فكثير من الناس يظن أن العبادة لا تكون إلا بالفعل، بينما هذا الحديث يُعلِّمنا أن الترك نفسه عبادة، ما دامت النية خالصة لله، فمن الورع أن تُمسك عن الكلام، أو أن تبتعد عن النقاشات الفارغة، أو أن تغضَّ بصرك عما لا ينبغي، وقد قيل: “إذا لم يكن في الكلام زيادة لك، فسكوتك راحة لك”.
-
التزكية تبدأ من ترك السلبيات ترك الحديث في غير محله، والتطفل في خصوصيات الناس، ونقاش المنكرات الذي لا طائل من ورائه… كلها ليست معاملات فقهية محايدة، وإنما أخلاق تعمل على بناء شخصية إنسانية راقية، لا مشغولة بما لا يفيدها، وقال الشافعي: “ثلاث تزيد في العقل: مجالسة العلماء، ومجالسة الصالحين، وترك الكلام فيما لا يعني”.
-
معنى الورع في سريرتنا، فتركيز الحديث لا يقتصر على الظاهر، بل يشمل تصرفات القلب والبدن، التي قد تمر دون مراقبة، لكن تركها مؤدٍّ إلى طهارة النفس، وهو مفتاح الورع والنضج الداخلي.
-
إشغال النفس بما لا يعني، علامة على قلة الفقه، والإمام الحسن البصري قال: “من علامة إعراض الله عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه”، فالعاقل لا يُهدر طاقته في تتبع الناس، أو تعقب أخطائهم، بل يلتفت إلى عيوب نفسه، ويمضي عمره في تزكيتها، وهنا يكمن الفرق بين المسلم العادي، والمسلم الحسن الإسلام.
-
صلاح الفرد بداية صلاح المجتمع، فإذا التزم كل مسلم بهذا الحديث، ترك ما لا يعنيه، وتفرَّغ لما يُصلحه، ساد بين الناس الستر، والطمأنينة، وقلَّ التدخل، وقلت الغيبة والنميمة، وسلِمت القلوب، ونضجت المجالس، والحديث لا يربي فردًا فقط، بل يُهذِّب أمة.
-
ضبط اللسان أصل في السمو الروحي، والنبي ﷺ قال: “وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِعلَى وجوهِهِم، أوعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم”، وجاء حديث “من حسن إسلام المرء…” يُرشدنا إلى أحد أعظم أبواب حفظ اللسان: أن لا تتكلم في غير ما يعنيك، ولا تخوض في ما لا يزيدك قربًا من الله.
- الفضول، والتجسس، والتدخل فيما لا يخصك، كلها مظاهر تدل على ضعف في التزكية، وافتقار إلى النضج الإيماني، فكلما سموت بإيمانك، ضاق فضولك، واتسعت عزلتك الإيجابية عن القيل والقال.
- المسلم الناضج يُحسن ترتيب أولوياته، فهو لا ينشغل بسفاسف الأمور ويترك عظائمها، بل يزن كل تصرف قبل أن يفعله: هل هذا يُرضي الله؟ هل هو من شأني؟ هل يُفيدني في ديني أو دنياي؟.
-
الانشغال بما يعنيك مفتاح للبركة، فإذا شغلت نفسك بما يعنيك، بورك لك في وقتك، وجهدك، وعلاقاتك، وعملك، وعبادتك، وستشعر بأن يومك ممتلئ بالخير، لأنك لم تبدِّده في تتبع الآخرين أو الخوض فيما لا شأن لك به.
- في مواضع كثيرة، الصمت أبلغ، والابتعاد أكرم، والانصراف أعقل، فمن تعوَّد على ترك ما لا يعنيه، سَلِم من كثرة الخصومات، والجدال العقيم، والمواقف المحرجة.
-
الحديث دعوة لتركيز القلب على الله، فمن يترك ما لا يعنيه، كأنه يربِّي قلبه على الصفاء والصدق مع الله، فلا يلتفت إلى الحشو والزوائد، بل يتفرَّغ لما يُرضيه، ويشتغل بما يُقرِّبه من خالقه، ويحرص على ألا يكون يومه ضياعًا.
✨”من أراد قلبًا سليمًا، ولسانًا طاهرًا، وعلاقات متزنة، وأجرًا عظيمًا، فليتعلَّم كيف يترك ما لا يعنيه”.
كيف تُطبق حديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” في حياتك؟
- اسأل نفسك دائمًا: هل هذا يخصني؟ هل يُطلب مني؟ هل يُرضي الله؟.
- تحكم في فضولك: ليس كل ما تراه أو تسمعه يجب أن تُعلّق عليه.
- تعلَّم قول “لا شأن لي”: فهي أحيانًا عبادة.
- اجعل وقتك مشغولًا بما يعنيك: من قرآن، علم، عمل، تربية، بناء ذات.
- صن أذنك ولسانك: لا تُصغِ لما لا ينفع، ولا تتحدث فيما لا يعنيك.
في الختام، إذا فهمت حديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”، وعملت به، وراقبت نفسك عند كل موقف، فاعلم أنك على طريق الصالحين، وأنك ترتقي في سلم الإيمان، فليس كل من أسلم حسن إسلامه، لكن من التزم بهذا الحديث، زكَّى قلبه، ونقَّى لسانه، وعلت درجته عند ربه، فدع ما لا يعنيك، وعِش لما خُلقت له.
المصدر