“وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ”…تأمل المعنى والإعجاز القرآني
تعرف على معنى "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ"
من الآيات التي تهز القلب وتخاطب الفطرة والعقل معًا، تلك الآية الكريمة التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ (سورة الأنبياء، الآية 30)
ففي هذه الكلمات القليلة الموجزة يكمن سر من أعظم أسرار الخلق، ولفظة من ألفاظ الله التي تحوي في داخلها عالماً من الإعجاز، وكونًا من الأسرار، وحقيقة علمية وفلسفية وروحية في آنٍ واحد.
المعنى اللغوي لآية “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ “
يدل لفظ “جعلنا” على الخلق والتقدير، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ (سورة الأنبياء، الآية 32)، أي قدَّرناها وبنيناها بهذا الشكل المحكم، واستخدام فعل “جعلنا” هنا في الآية مع “من الماء كل شيء حي” يحمل معنى الإبداع والتكوين، أي أن الماء ليس عنصر ضروري فحسب، بل هو أصل التكوين لكل حياة.
والتعبير بـ”كل شيء حي” يدل على العموم، فيشمل الإنسان والحيوان والنبات والكائنات الدقيقة، وكل ما دب على الأرض وتحرك فيها.
التفسير الإيماني لآية “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ “
القرآن كتاب هداية يلامس أرواح المؤمنين ويدعوهم للتفكر في الخلق، وتأتي الآية في سياق الحديث عن قدرة الله في خلق السماوات والأرض، ودحض حجج الكافرين، فالله سبحانه يقدم دليلاً حسياً بليغاً على قدرته على البعث والنشور، فيذكِّر الناس بما يشاهدونه كل يوم كالماء ذلك العنصر البسيط في ظاهره، العجيب في تركيبه، الذي تنبع منه الحياة بكل أشكالها.
وقد جاء ختم الآية بـ ﴿أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ ليخاطب القلب والعقل، مستنهضًا الضمائر الغافلة للتأمل في هذا السر العجيب.
الإعجاز القرآني في آية “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ “
تعتبر هذه الآية من دلائل الإعجاز العلمي في القرآن، وقد سبقت بمئات السنين ما توصل إليه العلم الحديث في البيولوجيا والكيمياء والفيزياء من أن الحياة لا يمكن أن توجد بدون الماء، فدعونا نتعرف على جزء من هذا الإعجاز:
الماء أساس تكوين الكائنات الحية
يؤكد العلم الحديث على أن أجسام الكائنات الحية تتكون بنسبة تصل إلى 70%-90% من الماء، وكل العمليات الحيوية (الهضم، التنفس، الدورة الدموية، النمو، التكاثر) تعتمد بشكل مباشر على وجود الماء، كما أن الخلية، وهي وحدة البناء الأساسية في كل كائن حي، لا يمكن أن تؤدي وظائفها الحيوية إلا بوجود وسط مائي، وذلك يطابق تمامًا ما جاء في الآية الكريمة، حيث لم يرد فقط أن الماء ضروري للحياة، بل إن الحياة كلها متفرعة منه وناشئة بفضله.
الماء والنبات “فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ”
ورد ذكر الماء أيضًا في آيات أخرى لبيان دوره المحوري منها: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ (سورة لقمان، الآية 10)، وأيضًا ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (سورة الأعراف، الآية 58).
فكل ورقة، وكل سنبلة، وكل زهرة، وكل ثمر، إنما خرج بوجود الماء، والنبات غذاء للكائنات الحية، وفي ذلك دلالة على أن “من الماء كل شيء حي” تشمل النبات، الحيوان، الإنسان، بل وحتى الكائنات المجهرية.
دور الماء في تكوين الإنسان “خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ”
جاء في موضع آخر قوله تعالى: ﴿خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ﴾ (سورة الطارق، الآية 6)، وهو إشارة دقيقة إلى أن الإنسان خُلق بداية من ماء الرجل، وهي نطفة صغيرة تحتوي على جميع المعلومات الوراثية لتكوين إنسان كامل، وذلك يؤكد على عمق المعنى في قوله: “مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ “.
الحياة المائية في أول الخلق
يعتقد العلماء أن الحياة على الأرض بدأت في الماء، وأن أول الكائنات الحية ظهرت في البحار والمحيطات قبل أن تنتقل إلى اليابسة، وذلك يتفق مع ظاهر قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾، أي أن البداية الأولى للحياة ارتبطت بوجود الماء.
تركيب الماء أبسط وأعجب مركب
الماء مكون من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين (H2O)، وهذا المركب البسيط له خصائص فريدة منها قدرة عالية على إذابة المواد، وتنظيم درجة الحرارة، والتماسك السطحي (ما يسمح للنباتات بامتصاصه من التربة)، وكذلك التوازن بين الحالة السائلة والصلبة والغازية على سطح الأرض.
جميع هذه الخواص السابقة تجعل من الماء الوسيط الأمثل للحياة، وهذا ما يعبر عنه القرآن باختصار مذهل: “من الماء كل شيء حي”.
الماء بين العجز البشري والقدرة الإلهية
لعل من أبرز ما يلمسه المتدبر لآية ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ هو إحساس العجز البشري أمام قدرة الخالق، فنحن نستهلك الماء يوميًا نستخدمه، ونشربه، ونزرع به، ولكننا لا نملك خلقه.
وقد تحدى الله سبحانه وتعالى البشر بهذا: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ﴾ (سورة الواقعة، الآيات 68-69)، وتضع هذه الآيات الإنسان في مكانه الحقيقي، وترده إلى الاعتراف بأن الخالق وحده هو الذي يهب الحياة، وأن الماء هو منة من الله لا يقدر على إنشائها إلا هو.
أقوال العلماء في تفسير آية “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ “
- ابن كثير رحمه الله قال: “أي: أصل كل الأحياء من الماء، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾، أي: من هذا الماء تكونت الحياة”.
- القرطبي في تفسيره: “الماء سبب الحياة، وبه قوامها، فلا يعيش شيء بدونه، وقد جعله الله مادة أصلية للحياة”.
- الطبري: “أي جعلنا من الماء حياة كل شيء حي يعيش على الأرض، فلا شيء حي إلا وهو محتاج إلى الماء لبقائه”.
- الرازي أشار إلى لمحة فلسفية فقال: “لولا الماء لما وُجد نبات، ولا حيوان، ولا إنسان، فهو العنصر الرابط بين الحياة والمادة”.
- الدكتور زغلول النجار: “القرآن سبق العلم بأربعة عشر قرنًا، حين أكد أن أصل الحياة هو الماء. ولم يأت ذلك بطريقة عرضية، بل في سياق تأملي علمي بديع”.
- الشيخ الشعراوي: “الماء لا يُخلق، بل يُدبر. الماء هو العنصر الذي تجلى فيه تدبير الله أكثر من غيره، لأنه لا يفنى ولا يُستحدث”.
- الدكتور مصطفى محمود:”إذا نظرت إلى الماء، فأنت لا ترى فقط مادة، بل ترى الحياة وهي تنبض، ترى سرًّا صامتًا يُنطقك بـ لا إله إلا الله”.
📘لا تُشير هذه الآية فقط إلى ضرورة الماء، بل تؤكد على أن الماء هو الأصل الذي تنبع منه الحياة، بل إن بعض العلماء يقولون إن خلق الحياة بدأ في الماء ثم تطورت الكائنات بعد ذلك، وهو ما يشير إليه العلم الحديث كذلك.
أسرار بلاغية في آية “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ “
البلاغة القرآنية لا تترك لفظة دون حكمة، وهذه الآية القصيرة تحتوي على جماليات بديعة:
-
“من الماء” استخدام “من” للتبعيض هنا يشير إلى عنصر التركيب والتكوين، لا مجرد المصاحبة.
-
“كل شيء حي” تعبير شامل، يدل على العموم الحقيقي، ولا يستثني شيئًا، مما يعني أن أي حياة، بأي صورة كانت، لا بد أن يكون الماء فيها عنصرًا أساسيًا.
-
الحذف البلاغي، فلم يقل الله “وخلقنا”، بل قال “وجعلنا”، فالجعل هنا أوسع من الخلق، فهو يشمل الخلق، والتقدير، والتنظيم، والوظيفة.
-
الترتيب في السورة، حيث جاءت الآية بعد فتق السماوات والأرض، كإشارة إلى بداية تشكل الحياة بعد إعداد المسرح الكوني.
تأملات قلبية وروحانية
🔹 إذا تأملت الماء، وجدته شفافًا، ونقيًا، وسهل الانسياب مثل الإيمان حين يدخل القلب.
🔹 وإذا فقد الماء صفاءه، أصبح عكرًا لا يُشرب، كما أن القلب إذا امتلأ بالذنوب، عميت بصيرته.
قال بعض أهل العلم: “الماء رمز للروح، فإذا دخل الجسد دبت فيه الحياة، وإذا غاب، ماتت الأعضاء.”
وإذا أردت تطهير الجسد: استعملت الماء، أما إذا أردت تطهير القلب: استعملت القرآن.
والعلاقة بين الماء والقرآن وثيقة، فكما أن الماء يُحيي الأرض الميتة، فإن القرآن يُحيي القلوب القاسية.
العمل بآية “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ ” ( كيف نُحيي قلوبنا بها؟)
-
التأمل في الخلق، فكلما شربت الماء، تذكَّر أنه “سر الحياة”.
-
الشكر العملي، بعدم تبذير الماء – ورد عن النبي ﷺ أنه كان يتوضأ بـمد فقط (أقل من لتر واحد).
-
الدعوة إلى الله، باستخدم هذه الآية كمدخل لإقناع الآخرين بوجود خالق حكيم.
-
الاعتراف بالعجز، فنحن لا نخلق قطرة ماء، فهل نملك شيئًا فعلاً؟.
فوائد مستنبطة من آية “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ “
القرآن لا يخاطب فقط العقول، بل يربي النفوس، ويهذب القلوب. من آية ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ نستخرج دروسًا تربوية كثيرة منها:
التواضع أمام خلق الله
حين تعلم أن حياتك وكل شيء حولك لا يقوم إلا على هذا العنصر البسيط، الشفاف، والساكن الذي لا صوت له ولا لون تدرك كم أنت ضعيف، وكم أن الله قوي عزيز.
قال بعض الصالحين: “من عرف نفسه بالماء والتراب، عرف أن لا حق له في الكبر على أحد”.
حسن استغلال الموارد
الإسلام دين الوسطية، والماء في صميم هذه الوسطية، ففي الوقت الذي أصبح فيه التبذير هو القاعدة، يعلِّمنا القرآن أن كل قطرة ماء أمانة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ بسَعدٍ وَهوَ يتوضَّأُ، فقالَ : ما هذا السَّرَفُ يا سَعدُ ؟ قالَ : أفي الوضوءِ سَرفٌ قالَ : نعَم، وإن كنتَ على نَهْرٍ جارٍ (رواه ابن ماجه).
هذه التربية البيئية الرصينة تستمد جذورها من فهمنا أن الماء ليس مجرد مادة، بل هو روح الحياة.
ربط العلم بالإيمان
حين يقرأ الإنسان الحديث العلمي عن الماء، ثم يقرأ هذه الآية، تلتقي العلوم عند باب القرآن، وتتحول المعرفة إلى خشوع، والعلم إلى خضوع، كما قال الله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (سورة فاطر، الآية 28).
في الختام، ها هو القرآن الكريم يضع بين أيدينا حقيقة علمية، بل معجزة كونية منذ أكثر من 1400 سنة، فيخبرنا أن الحياة بكل صورها قامت على الماء، بل إن الماء هو الأصل والأساس والركيزة، فما أعظم هذا الكتاب، وما أعظم هذا الإله الذي جعل من أبسط مخلوقاته، الماء، سرًا للحياة، وأداة للإيمان، وعلامة على قدرته التي لا تحد.
وإن كنا نعيش اليوم في عالم مادي جاف، فإن العودة إلى القرآن وتأمل معانيه، وخصوصًا هذه الآية الكريمة، هي بوابتنا لاسترجاع ذلك الصفاء، وتلك الصلة الروحية بالخالق، وذلك الإيمان العميق بأن: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾.
المصدر