إعرف دينكقصص الصحابةقصص دينية

أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها.. من الأسر إلى بيت النبوة

صفية بنت حيي رضي الله عنها من بنت زعيم يهودي إلى أم المؤمنين

أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها.. من الأسر إلى بيت النبوة

صفية بنت حيي رضي الله عنها، حين نفتح صفحات السيرة النبوية نلمح أسماء نساء خالدات، لم تكن عظمتُهنَّ فقط في القرب من النبي ﷺ، بل في ما قدمنه من تضحيات، وإيمان، ومواقف سامقة تلامس السماء، ومن بين هؤلاء النسوة نجد أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها، التي جمعت في سيرتها المعاناة والتمكين، الألم والعزة، لتكون نموذجًا فريدًا للمرأة المؤمنة، والمجتمع المتنوع، والرحمة النبوية في أبهى صورها.

نسب صفية بنت حيي رضي الله عنها ونشأتها

هي صفية بنت حيي بن أخطب بن سعنة من قبيلة بني النضير – من أبرز القبائل اليهودية في المدينة المنورة –، وأبوها حيي بن أخطب من أعظم زعماء اليهود في المدينة وأشدهم عداوة لرسول الله ﷺ، أما أمها هي برة بنت سموأل، تنتمي إلى بيت شريف من بني قريظة.

وُلدت صفية في كنف أسرة ذات مكانة سياسية ودينية، وكانت محاطة بأجواء فكرية مشبعة بعلوم التوراة وتقاليد بني إسرائيل، لكنها نشأت أيضًا على فكرة عداء النبي ﷺ، الذي اعتُبر في نظر قومها تهديدًا لسلطتهم الدينية والسياسية.

ومع ذلك كانت صفية ذات قلب نقي، وعقل متفتح، وعيون تلمح الحقيقة وإن غطاها الجدل، وكانت تتمتع بذكاء حاد، وهدوء نادر، وجمال لافت، لكن القدر كان يرسم لها طريقًا آخر، أقرب إلى الروح وأبعد من الملامح.

أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها.. من الأسر إلى بيت النبوة
أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها

زواج صفية بنت حيي رضي الله عنها قبل الإسلام

تزوجت صفية مرتين قبل أن تصل إلى بيت النبوة سلام بن مشكم – أحد كبار يهود المدينة – لم يُكتب لزواجهما الاستمرار، وكنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق – زعيم من يهود خيبر – وكان من أشد المقاتلين يوم خيبر.

لم يكن الزواجان وليدي حب أو مودة، بل تحالفات استراتيجية بين العائلات القيادية اليهودية، ومع اشتداد الصراع بين النبي ﷺ واليهود، أصبح مصير صفية مرتبطًا مباشرة بلحظة حاسمة ألا وهي غزوة خيبر.

غزوة خيبر وصفية بنت حيي رضي الله عنها ولقاءها بالنبي ﷺ

في العام السابع للهجرة، وبعد نقض العهود ومشاركة اليهود في التحريض ضد المسلمين قاد النبي ﷺ جيشه نحو خيبر، وبعد مقاومة شرسة انتصر المسلمون، وقُتل زوج صفية كنانة بن الربيع في المعركة، وأُسرت صفية ضمن السبايا، وكان عمرها في حدود السابعة عشرة، وهنا تبدأ القصة الحقيقية…

رُويت مشاهد عدة مؤثرة عن أول لحظة رآى فيها النبي ﷺ صفية بنت حيي، حيث كانت حزينة، ومنهكة، وفي لحظة انهيار إنساني تام، وبإحساس نبوي فريد، أدرك النبي ﷺ ما تمر به، وحين أحضرها بلال رضي الله عنه، مرَّ بها على قتلى يهود خيبر، فانهارت بالبكاء، فغضب النبي ﷺ على بلال وقال له: “أنزعت الرحمة من قلبك يا بلال؟” (رواه الطبراني بسند حسن)، ثم خيَّرها النبي ﷺ قائلاً: “إن شئت رددتك إلى قومك، وإن شئت أسلمت وتزوجتك”.

فقالت صفية بنت حيي رضي الله عنها قولها الخالد: “يا رسول الله، لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني، حيث صرت إلى رحلك وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني الكفر والإسلام ، فالله ورسوله أحب إليَّ من العتق وأن أرجع إلى قومي”.

أعتقها النبي ﷺ، وجعل عتقها صداقها، وارتفعت مكانتها من “سبية” إلى “أمٍ للمؤمنين”.

زواج صفية بنت حيي رضي الله عنها من النبي ﷺ

لم يكن زواج صفية بنت حيي رضي الله عنها من النبي ﷺ زواجًا عاديًا، بل حمل معانٍ بالغة منها التسامح والتكريم، حيث حول صفية رضي الله عنها من امرأة أسيرة إلى زوجة، ورفع شأنها أمام الجميع، وانتزاع مشاعر الكراهية والعداوة من قلب كان قد تَغذى بها منذ الطفولة، كما أن زواج النبي ﷺ منها رسالة دعوية تحمل أن الإسلام لا يفرق بين يهودية أو عربية متى أسلمت وصدقت، واحتواء إنساني وسياسي بخفض التوتر مع بني النضير بعد هزيمتهم.

اندمجت صفية في بيت النبوة برقي رغم اختلاف خلفيتها الثقافية، وأظهرت ذكاءها، وعفتها، وحبها للنبي ﷺ، وروي أن النبي ﷺ كان يجلس بقربها في خيمتها يسامرها، ويمازحها، ويدعو لها، وكان يعرف أن بعض زوجاته يغِرن منها، فروت صفية أم المؤمنين رضي الله عنها: دخل علي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقد بلغنِي عن حفصةَ وعائشةَ كلامٌ، فذكرتُ ذلكَ لهُ، فقال : “ألا قلتَ: وكيف تكونانِ خيرا منِّي، وزوجي محمدٌ، وأبِي هارونُ، وعمِّي موسى”. وكأن الذي بلغهُا أنهم قالوا : نحنُ أكرمُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْها، وقالوا : نحنُ أزواجُ النبي صلى الله عليه وسلم وبناتِ عمِّهِ (رواه الترمذي).

في إحدى الغزوات كانت راحلتها بطيئة، فشعرت بالحزن والحرج، وبكت، فجاءها النبي ﷺ، وجلس بجانبها، ومسح دموعها بيده الشريفة، وقال: “هوِّني عليكِ يا صفية”، فهو لم يكن فقط نبيًا، بل إنسانًا يتعامل باللطف، ولم يعاتبها على البكاء، بل احتواها كزوج، وكرَّمها كإنسانة.

حياة صفية بنت حيي رضي الله عنها بعد وفاة النبي ﷺ

عاشت صفية بعد وفاة النبي ﷺ ثابتة على الإيمان، ومخلصة له، وحافظة لذكره، ولم تتزوج بعده تنفيذًا لأمر الله “وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ ” (سورة الأحزاب، الآية 53).

عُرفت بالورع، والصدق، والعبادة، وكانت تقرأ القرآن، وتصوم كثيرًا، وتقوم الليل، وتنفق من مالها، وتكرم الفقراء،كما شاركت في نقل الأحاديث، وعلمت النساء من التابعين، وأصبحت من أعمدة النقل الثقافي في الإسلام.

وحدث ذات مرة أن اتُّهِمت بالتواصل مع يهود، فقالت باكية: “ما لي ولليهود؟ إني أحب الله ورسوله، وما لي فيهم من أهل ولا عشيرة”، وكان بكاءها بحرقة، لأن الشك في إيمانها كان أوجع من كل ألم سابق، ونرى هنا وفاءها العميق بعد الإسلام، رغم أصولها.

صفات أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها

  • مؤمنة صادقة، فقد آمنت برسول الله ﷺ إيمانًا خالصًا رغم خلفيتها اليهودية.
  • عفيفة طاهرة، فقد حافظت على شرفها وكرامتها في أحلك الظروف.
  • حليمة وعاقلة ذات عقل راجح وأسلوب هادئ حتى مع من آذاها.
  • صبورة محتسبة، حيث تحمَّلت الغربة، والألم النفسي لفقد أهلها، واحتسبت ذلك عند الله.
  • مُحبة لله ورسوله، ومن أشهر ما قالت: “ما لي ولليهود؟ إني أحب الله ورسوله”.
  • فقيهة وعالمة، فرَوَت الأحاديث وشاركت في نقل العلم.
  • ذات جمال وحُسن، فكانت جميلة الشكل، وكان النبي ﷺ يكرمها ويُحسن إليها.
  • رقيقة المشاعر تتأثر وتبكي بسرعة، لكنها قوية في إيمانها ومواقفها.
  • متواضعة رغم مكانتها، فعلى الرغم أنها “أم المؤمنين” وابنة زعيم قومها، كانت متواضعة خلوقة.
  • حسنة الخُلق، فما عُرفت بسوء ولا أذى، بل بالصبر والأدب والتقوى.

وفاة صفية بنت حيي رضي الله عنها

توفيت صفية رضي الله عنها في خلافة معاوية بن أبي سفيان، نحو سنة 50 هـ، وصلَّى عليها أبو هريرة رضي الله عنه، ودُفنت في البقيع، بجوار أمهات المؤمنين، وقال عنها الذهبي: “من أمهات المؤمنين، حليمة، ذكية، فاضلة، عاقلة، رزينة”.

الدروس المستفادة من سيرة أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها

  • الهداية لا يعرفها نسب أو دين سابق، فلابد من عدم اليأس من هداية أحد، ولا الحكم على الناس بنسبهم أو خلفيتهم، فصفية وُلدت يهودية في بيت زعيم من ألد أعداء الإسلام، ومع ذلك هداها الله إلى الإسلام، وأصبحت من أمهات المؤمنين.
  • الإسلام يكرم المرأة ويصون كرامتها، فهو دين عدل ورحمة، يعيد للمرأة كرامتها مهما كان ماضيها، فنجد صفية رضي الله عنها تحولت من “أسيرة حرب” إلى زوجة النبي ﷺ، فرفع الإسلام مكانتها، وأزال عنها ذلَّ الأسر، وألبسها ثوب الكرامة.
  • الصفح والتسامح قوة لا ضعف، فمن آمن بحق سامح بصدق، حيث أن  التسامح سبيل للشفاء لا للخذلان، وهذا درس تعلِّمنا إياه صفية رضي الله عنها حين تجاوزت جراحها النفسية، وغفرت للمسلمين ما حدث لقومها، وأخلصت للإسلام حبًا وولاءً، رغم ماضي الألم.
  • التنافس لا يلغي الاحترام، والفضل لا يُنكر لمجرد الغيرة، فكانت صفية موضع غيرة بعض أمهات المؤمنين، لكن ذلك لم يُنقص من فضلها ومكانتها عند النبي ﷺ.
  • الرفق والحنان يفتحان القلوب، والكلمة الطيبة والاحتواء قد يغيران حياة إنسان بالكامل، مع أن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها كانت في موقف شديد الحرج والألم، إلا أن رفق النبي ﷺ واحتواءه العاطفي لها جعلاها ترى النور وتتبدّل مشاعرها.
  • الإيمان الحقيقي يُثبت عند الفتنة، و المؤمن يُعرف عند الابتلاء، لا عند الرخاء، فحين اتهم البعض أم المؤمنين صفية رضي الله عنها بأنها تميل إلى قومها اليهود، لكنها واجهت الاتهام بحزن، وردَّت بصدق قائلة: “ما لي ولليهود؟ إني أحب الله ورسوله”.

  • الكرامة تُنتزع بالإيمان لا باللقب، القيمة الحقيقية للإنسان فيما يؤمن به، ويقدِّمه، لا في مَن أنجبه، فعلى الرغم من أنها كانت بنت زعيم يهودي، فإن أعظم لقب نالته هو “أم المؤمنين”، لأنه جاء من إيمانها وصدقها، لا من نسبها.
  • من الظلمات يولد النور، فالله يخلق من الانكسار كرامة، ومن الأسر حرية، ومن المحنة منحة، فرحلة صفية كلها تقول: من وسط الظلم والعداوة والدماء يمكن أن يولد قلب مُضيء بالإيمان، وروح عامرة بالسلام.

في الختام، قصة صفية بنت حيي رضي الله عنها قصة إنسانية عظيمة تُجسد ما يفعله الإيمان الصادق حين يُلامس قلبًا مجروحًا، فمن بيت زعامة يهودي، إلى زوجة خاتم الأنبياء، ومن سبية في خيبر، إلى أمٍ للأمة، ومن الظلمة التي نشأت فيها، إلى النور الذي انطلقت منه، فهي سيرة تقول لكل من جُرح في قلبه: “لا تيأس، فالكرامة الحقيقية تُولد أحيانًا من تحت أنقاض الانكسار”.

المصدر

1

زر الذهاب إلى الأعلى
Index

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock