حديث “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا”… الأربعين النووية 10
شرح مبسط لحديث "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا" وفوائده للمسلم
يُعد حديث النبي ﷺ: “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا” من الأحاديث الجامعة التي اشتملت على أصول عظيمة من الدين، وهو الحديث العاشر في الأربعين النووية، وقد قرر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أصلًا كليًّا في قبول العبادات والمعاملات، مما يجعله حديثًا مركزيًا في أبواب العقيدة والفقه والسلوك معًا.
سنقدم في هذا المقال شرحًا تفصيليًا متكاملًا لهذا الحديث الشريف، من حيث متنه، وسنده، ودلالاته العقدية والفقهية، وأوجه الإعجاز فيه، وارتباطه بفقه الحلال والحرام، وأثر الطيب في القبول عند الله سبحانه، كما سنتناول تطبيقاته العملية في حياة المسلم اليومية.
نص حديث “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا”
روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ﴾ (سورة المؤمنون، الآية 51)، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ (سورة البقرة، الآية 172)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنّى يُستجاب لذلك؟”
الحديث رواه مسلم (رقم 1015)، وهو من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها من حيث الثقة بسنده وعلو إسناده، ويدخل ضمن أحاديث الرقائق، والآداب، وأصول العمل الصالح.
شرح بعض الألفاظ الواردة في حديث “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا”
-
“إن الله طيب”: أي منـزَّه عن كل نقص، موصوف بالكمال، طيب في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله.
-
“لا يقبل إلا طيبًا”: أي لا يقبل من الأعمال والأموال إلا ما كان طيبًا في مصدره ونيته وطريقته.
-
“أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين”: تسوية في الخطاب والنداء، وتأكيد على أن المؤمن مطالب بالاقتداء برسله، خصوصًا في طهارة المطعم والعمل الصالح.
-
“كلوا من الطيبات”: أمر بالأكل من الحلال، لا من الخبيث أو الحرام، وهو أصل في مشروعية الكسب الحلال.
-
“الرجل يطيل السفر”: إشارة إلى حال مستجابة في الغالب، حيث السفر موطن استجابة، لكن هنا لم تُستجب دعوته.
-
“أشعث أغبر”: هيئة التذلل والانكسار، تواضع ظاهري غالبًا ما يكون أقرب للقبول.
-
“يمد يديه”: هيئة الدعاء، وهذا من أسباب استجابة الدعاء.
-
“ومطعمه حرام… فأنى يُستجاب له”: الاستفهام للإنكار، أي لا يُستجاب لهذا الرجل مع توفر أسباب الاستجابة الظاهرة، بسبب فساد الباطن.
الشرح العام لحديث “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا”
يُرسي الحديث أصلًا عظيمًا في الدين، وهو أن الطَّيبية شرط في القبول، فالله لا يقبل من العباد إلا ما كان طاهرًا في ذاته، نقيًا في مصدره، مشروعًا في أصله، طيبًا في وسيلته وغايته، وهو يربط بين:
-
طهارة الكسب والمعيشة،
-
وصدق التوجه والدعاء،
-
والعمل الصالح المقبول عند الله.
فالحديث غير مخصص للدعاء فقط، بل في الدين كله، حيث يُعلِّمنا أن النية الطيبة لا تُغني عن الوسيلة الطيبة، كما لا تُغني الوسيلة الطيبة عن النية الصادقة، فلابد من اجتماع الطيب في كل شيء.
شرح الحديث ومحاوره
الطيب من أسماء الله وصفاته
قال الإمام النووي: “الطيب في الحديث معناه: المتنزه عن النقائص والخبائث، وهو بمعنى القدوس”، فالله عز وجل طيب في ذاته، لا يقبل من الأعمال إلا ما وافق مراده وشرعه، وذكر القرطبي: “الطيب هنا معناه: الطاهر الكامل، فلا يقبل من الأعمال إلا ما كان كذلك”، ويشمل ذلك طيب النية، وطيب العمل، وكذلك طيب الكسب، وطيب القول.
لا يقبل إلا طيبًا (معيار القبول)
القبول عند الله ليس مبنيًا على ظاهر العمل فقط، وإنما على الإخلاص، والمتابعة، وحِل الكسب، والإمام ابن رجب الحنبلي قال: “هذا الحديث أصل عظيم في وجوب اجتناب المحرمات في المطاعم والملابس، وغير ذلك، وأن من لم يجتنبها، لم يُستجب دعاؤه، كما أن من لم يتطهر لم يُستجب صلاته”.
طيب المطعم وأثره في العبادة والدعاء
يُظهر الحديث بوضوح كيف أن الكسب الحرام يحجب قبول الأعمال، حتى لو اجتمعت كل شروط استجابة الدعاء الأخرى، فالرجل مسافر (موطن إجابة)، وأشعث أغبر (في حال التذلل)، ورافع يديه (هيئة الدعاء والإستجابة)، ويُكرر الدعاء (يا رب، يا رب)، لكن كل هذا ضاع بسبب طعامه حرام، وشرابه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، وكل هذا فساد في الأصل، لا يصلح معه ظاهر التقوى.
التساوي في التكاليف بين الأنبياء والمؤمنين
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ ” (سورة المؤمنون، الآية 51)، وقال أيضًا: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ” (سورة البقرة، الآية 172).
في ذلك دلالة على أن العمل الصالح لا يتم إلا بعد الكسب الطيب، وأن الرسل وهم قدوة الخلق، مأمورون بأكل الحلال قبل العمل.
وقد علق ابن كثير قائلًا: “الطيبات تشمل الحلال، وتشمل الطاهر من المكاسب، فلا تقبل عبادة من شخص لا يتورع عن أكل الحرام”.
لماذا لا يُستجاب الدعاء مع التضرع والانكسار؟
لا يُستجاب الدعاء مع التضرع والانكسار؛ لأن هناك مانعًا قلبيًا وأخلاقيًا وهو الحرام في المكسب والمطعم، وهو أشد من فقدان الشكل الظاهري للخشوع.
والإمام ابن القيم: “الدعاء له أسباب، وله موانع… ومن أعظم موانعه: أكل الحرام، ولبس الحرام، والتغذي بالحرام”، كما قال السعدي: “هذا تحذير شديد أن لا يظن العبد أن ظاهر التذلل يغني عن الباطن الفاسد”.
الحلال والحرام وأثره في العمل الصالح
أجمع العلماء على أن المال الحرام لا يترتب عليه أجر في الآخرة، بل يكون وبالًا على صاحبه، مهما حاول أن يستعمله في أعمال الخير، فإن الله لا يُخدع، ولا تُرفع إليه صدقة من حرام، ولا تُقبل عبادة ممزوجة برياء أو بدعة، ومن القواعد الشرعية المبينة لذلك:
-
ما بني على باطل فهو باطل.
-
الغاية لا تبرر الوسيلة في الشريعة.
-
قبول العمل مرهون بطهارته من الرياء والحرام.
قال ابن رجب رحمه الله: “المقصود من ذكر الرجل في الحديث مع استكماله أسباب الإجابة الظاهرة، هو بيان أن أكل الحرام مانع من الإجابة”.
ارتباط حديث “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا” بمقاصد الشريعة
حفظ الدين
لا يكون الدين محفوظًا إلا إذا كانت العبادة خالصة طاهرة.
حفظ المال
الشريعة لا تقر المال المكتسب من الربا، أو الرشوة، أو السرقة، أو الغش التجاري.
حفظ النفس والنسل
يتسرب الحرام في المطعم والمشرب والملبس إلى النفس فيفسدها، وإلى الذرية فتكون التغذية نجسة، والنبي ﷺ قال: “كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به” (رواه الترمذي).
تطبيقات عملية لهذا الحديث في حياة المسلم
- تحرِّي الحلال في الكسب والإنفاق، فعلى المسلم أن يتحرى مصدر دخله من حيث المشروعية، ويتجنب الغش، والتزوير، والربا، وكل المعاملات المشبوهة.
- الإخلاص في العمل والعبادة، فالعبرة ليست بكثرة العمل بل بطهارته من كل شائبة، فـعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ اللهَ تَُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنظُرُ إِلَّى قُلُوبِكُم وأَعمَالِكُم” (متفق عليه).
-
اختيار الطعام والشراب واللباس من الحلال، حتى لو كان قليلًا، فإن القليل من الحلال فيه بركة، والكثير من الحرام فيه لعنة.
-
الحذر من التهاون بالدعاء، فليس كل من دعا أُجيب، فالدعاء له شروط، وأعظمها أن يكون قلبك طيبًا، ويدك طيبة، ومأكلك طيبًا.
أقوال العلماء في حديث “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا”
-
قال ابن دقيق العيد: “فيه أن قبول العمل متوقف على كونه طيبًا، وفساد الأصل يمنع الأثر”.
-
وقال القرطبي: “المراد بالطيب هنا الطاهر من الرياء والبدعة والحرام”.
-
كما قال السعدي: “هذا الحديث أصل في مراقبة العبد لكسبه وعبادته”.
هل الحلال يُؤثر في استجابة الدعاء فقط؟
لا، بل يمتد أثره إلى بركة العمر، وطمأنينة القلب، وصلاح الذرية، ونور في الوجه، وسعة الرزق الحقيقي، والله تعالى يقول: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (سورة إبراهيم، الآية 37)، فالرزق مرتبط بالنية والطيب.
فوائد حديث “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا”
-
الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبًا خالصًا من الرياء والبدعة.
-
تحذير شديد من الكسب الحرام، لما له من أثر في منع قبول الأعمال.
-
المال الحرام يمنع استجابة الدعاء مهما بلغت مظاهر التذلل.
-
طهارة الظاهر والباطن شرط لقبول العبادة عند الله عز وجل.
-
العمل الصالح لا يُقبل إن كان مبنيًا على وسيلة محرمة.
-
المؤمن مأمور كحال الأنبياء بأكل الطيبات والعمل الصالح.
-
المكسب الطيب يُورث نورًا في القلب وبركة في العمل.
-
المال الحرام يفسد النية والعمل ويحول دون التوفيق الإلهي.
-
لا تكفي النية الحسنة في تبرير العمل إن كان بوسيلة محرمة.
-
الدعاء عبادة لا تُستجاب مع خبث المطعم والمشرب.
-
التزكية الحقيقية تشمل الحلال في الكسب والمأكل والمشرب.
-
الحديث يرسخ قاعدة: “الوسيلة الطيبة شرط للمقصد الطيب”.
-
لا يُعتد بالمظاهر إذا كان الباطن فاسدًا.
-
الحديث دعوة صريحة لتحرِّي الحلال ومحاسبة النفس.
-
المال الحلال وإن قل، فيه بركة وراحة قلبية.
-
المعاصي المالية قد تكون سببًا في حرمان العبد من الهداية والقبول.
-
الحديث يُرسي قاعدة عظيمة في فقه المعاملات: “من أين لك هذا؟”
-
صلاح المكسب من أعظم أسباب صلاح القلب والدين.
-
القبول عند الله مرتبط بالطيب في النية والوسيلة والعمل معًا.
في الختام، حديث “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا” ميزان شرعي شامل لكل ما يصدر عن الإنسان، من كسب، وعمل، وعبادة، ودعاء، وخلق، فهو يرسِّخ مبدأ: أن القبول الإلهي مبني على طهارة الظاهر والباطن معًا، وأن الطيبية ليست وصفًا عابرًا، بل أصل من أصول القرب من الله، فلنحرص على الكسب الحلال، وصدق التوجه، وطهارة القصد، لعلنا نُرفع إلى مقامات القبول، ويكون دعاؤنا مستجابًا، وعملنا مبرورًا، وحياتنا مباركة.
المصدر
تعليق واحد