هل يجوز القراءة بالقلب في الصلاة؟، الصلاة هي الركن الأعظم بعد الشهادتين، وهي الصلة التي تربط العبد بربه خمس مرات في اليوم والليلة، كما أنها عماد الدين، ومن أعظم أركانها قراءة الفاتحة التي لا تصح الصلاة بدونها، ومع ذلك يطرح كثير من المسلمين سؤالًا مهمًّا: هل يجوز القراءة بالقلب في الصلاة؟، وهل يجوز أن أقرأ الفاتحة بالقلب في الصلاة دون تحريك اللسان أو الشفتين؟، وهل يكفي استحضار الآيات في الذهن؟
هذا السؤال ليس بسيطًا، حيث يتعلق بركن عظيم من أركان الصلاة، والجواب يحتاج إلى تفصيل واستقراء لأقوال أهل العلم وأدلتهم حتى تتضح الصورة لكل مسلم حريص على صحة عبادته.
معنى القراءة بالقلب في الصلاة والفرق بينها وبين القراءة السرية
قبل الدخول في الحكم الشرعي للقراءة بالقلب في الصلاة لا بد من التمييز بين مفهومين قد يختلطان على البعض:
- القراءة بالقلب وهي أن يكتفي المصلي باستحضار آيات الفاتحة وغيرها في ذهنه فقط دون أن يحرك لسانه أو شفتيه، فلا يظهر منه أي عمل ظاهري.
- والقراءة السرية والتي تكون بأن يحرك المصلي لسانه وشفتاه بقراءة الفاتحة دون أن يرفع صوته بحيث لا يسمعه غيره، وربما لا يسمع نفسه إلا همسًا يسيرًا.
الفرق بينهما دقيق لكنه مؤثر في الحكم الشرعي، فجمهور العلماء يشترطون تحريك اللسان والشفتين في القراءة، أما الاكتفاء بالقلب فقط فهو غير مجزئ إلا عند العجز.
الأدلة الشرعية لعدم جواز القراءة بالقلب في الصلاة والتي توجب تحريك اللسان
القراءة في أصل اللغة تعني التلفظ بالكلام، ولذلك نجد أن الأدلة الشرعية في القرآن والسنة تدل على ضرورة تحريك اللسان في القراءة، ومن أبرز هذه الأدلة:
قال الله تعالى: “فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ” (سورة المزمل، الآية 20)، فالقراءة هنا لا تكون إلا بتحريك اللسان وإخراج الحروف، أما مجرد استحضار المعاني بالقلب فهو تفكر لا يُسمى قراءة.
وقوله تعالى: “وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا” (الأعراف: 204)، وذلك يدل على أن القراءة فعل يُسمع، أما استحضار الآيات بالقلب فلا يُسمع.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لَا صَلَاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ” (رواه البخاري ومسلم)، والقراءة المقصودة هنا هي التلفظ بها، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك شفتيه بالقراءة في جميع صلواته، حتى في الصلاة السرية.
أقوال المذاهب الأربعة عن حكم القراءة بالقلب في الصلاة
اتفقت المذاهب الأربعة على أن القراءة بالقلب وحدها لا تصح، ويجب تحريك اللسان والشفتين، ولو بغير صوت مسموع.
مذهب الحنفية
ذهب الحنفية إلى أن القراءة بالقلب فقط لا تجزئ، ويشترط أن يحرك المصلي لسانه وشفتاه. قال الإمام الكاساني في بدائع الصنائع: “القراءة عمل، والعمل لا يكون بالقلب، فلا بد من تحريك اللسان”، ويُشترط عندهم أن يسمع المصلي نفسه إن كان قادرًا، فإن لم يسمع نفسه لعذر أو شدة خفوت الصوت أجزأه ما دام حرك لسانه.
مذهب المالكية
يرى المالكية أن القراءة بالقلب وحدها غير مجزئة، ولا بد من تحريك اللسان. قال الإمام الدردير في الشرح الكبير: “لا يُجزئه أن يقرأ في نفسه دون تحريك لسانه، لأن القراءة إنما هي النطق باللسان”، كما أكدوا أن القراءة السرية لا بد فيها من تحريك اللسان والشفتين، أما مجرد الفكر فلا يُعد قراءة.
مذهب الشافعية
الشافعية من أشد المذاهب تشديدًا في هذا الباب، إذ يشترطون أن يسمع المصلي نفسه إن كان سمعه سليمًا، فإن لم يسمع نفسه بطلت قراءته. قال الإمام النووي في المجموع: “يشترط أن يسمع نفسه القراءة إذا كان صحيح السمع خاليًا من المانع، فإن لم يسمع نفسه لم تصح قراءته، سواء كانت صلاة سرية أو جهرية”، أما إن كان أصمًا أو لا يستطيع سماع نفسه لعذر فلا تبطل صلاته، لكن الأصل عندهم هو السماع الذاتي.
مذهب الحنابلة
الحنابلة كذلك لا يجيزون الاكتفاء بالقلب في القراءة، بل يجب تحريك اللسان. قال ابن قدامة في المغني: “ولا يجزئه القراءة بالقلب لأنه لم يأت بفعل القراءة، فإن القراءة عمل ظاهر”، ويكفي عندهم أن يحرك لسانه ولو لم يسمع نفسه.
حكم العاجز عن تحريك اللسان
إذا كان المصلي عاجزًا عن تحريك لسانه لمرض أو فقد القدرة على النطق، فإنه يُجزئه أن يقرأ بقلبه؛ لأنه معذور، وذلك مستند إلى قوله تعالى: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا” (سورة البقرة، الآية 286)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ” (رواه البخاري ومسلم)، فهنا يكون استحضار الفاتحة بالقلب كافيًا لعجزه عن النطق.
فتاوى العلماء المعاصرين في مسألة القراءة بالقلب في الصلاة
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (السعودية)
قالت: “لا بد من تحريك اللسان والشفتين عند القراءة في الصلاة، ولا يكفي استحضار القراءة بالقلب فقط، إلا إذا كان المصلي عاجزًا”.
فتوى الشيخ ابن باز رحمه الله
أوضح أنه لا بد من تحريك اللسان في القراءة في الصلاة السرية والجهرية، ولا تكفي القراءة بالقلب.
فتوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
أكد أن تحريك اللسان شرط لصحة القراءة، ولو لم يسمع المصلي نفسه، أما استحضار الآيات بالقلب فهو تفكر لا يُعد قراءة.
الحكمة من اشتراط تحريك اللسان في قراءة القرآن أثناء الصلاة
-
تحقيق معنى القراءة الشرعية التي تكون بإخراج الحروف من مخارجها.
-
مشاركة الجوارح في العبادة مما يعين على الخشوع وحضور القلب.
-
اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت أنه كان يحرك لسانه في القراءة حتى في الصلوات السرية.
-
التفرقة بين الصلاة والذكر القلبي، فالصلاة عبادة لها أقوال وأفعال، أما الذكر القلبي فهو عبادة مستقلة.
أثر القراءة بالقلب في الصلاة على صحتها
إن تعمد المصلي ترك تحريك اللسان واعتمد على القراءة القلبية فقط، فصلاته غير صحيحة عند جمهور العلماء، أما إذا جهل الحكم أو نسي ولم يحرك لسانه، فالأحوط له إعادة الصلاة بعد أن يتعلم الحكم، والعاجز كالأبكم أو من يعجز بسبب مرض فلا حرج عليه في القراءة بالقلب.
هل يشترط إسماع النفس عند القراءة في الصلاة؟
شبهات وردت حول القراءة بالقلب في الصلاة والرد عليها
الشبهة الأولى: أليس الله يعلم ما في القلوب؟
نعم، الله سبحانه يعلم ما في القلوب، لكن الصلاة عبادة مبنية على أقوال وأفعال مخصوصة، ولا تتحقق القراءة إلا بتحريك اللسان، ولو كانت القراءة القلبية تكفي لما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بتحريك اللسان في الصلاة.
الشبهة الثانية: أليس الذكر القلبي مشروعًا؟
الذكر القلبي مشروع في مواضع كثيرة، لكن الصلاة عبادة ذات أركان مخصوصة لا يصح إسقاطها إلا لعذر، فكما لا يصح الركوع أو السجود بالقلب، كذلك لا تصح القراءة بالقلب.
في الختام، القراءة بالقلب في الصلاة لا تُجزئ عند جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ويجب على المصلي تحريك لسانه وشفتاه بقراءة الفاتحة وما بعدها في كل ركعة، ولا يُعفى من ذلك إلا العاجز الذي لا يستطيع تحريك لسانه بسبب مرض أو عاهة، فذلك يُجزئه استحضار الآيات بقلبه.
المصدر