هل يجب على الزوجة خدمة زوجها؟، الحمد لله الذي شرع النكاح وجعله آية من آياته، ومودة ورحمة بين عباده، وأمر بمعاشرة الأزواج بالمعروف، وحثَّ على الإحسان، وجعل لكلٍّ من الزوجين حقوقًا وواجبات، ليقوم البيت المسلم على أسس العدل والمودة، لا على الظلم والأنانية.
ومن المسائل التي يكثر السؤال عنها، ويطول فيها الجدل بين الناس مسألة: هل يجب على الزوجة خدمة زوجها في بيته؟ أهي ملزمة شرعًا بالطبخ والتنظيف وغير ذلك من شؤون البيت، أم أن ذلك إحسان منها غير واجب؟
هذه المسألة ليست هامشية، بل تمس صميم العلاقة بين الزوجين، وتتعلق بتوزيع المسؤوليات، ولها أثر مباشر على استقرار الأسرة، وقد تكلم فيها أهل العلم قديمًا وحديثًا، ونصُّوا على ضوابطها، وبيَّنوا أحكامها، مع مراعاة مقاصد الشريعة في حسن العشرة.
هل يجب على الزوجة خدمة زوجها؟
الأصل في العلاقة الزوجية ما أمر الله تعالى به في قوله: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [سورة النساء، الآية 19]، والمعروف كما قال أهل التفسير هو ما جرت به عادة الناس في إحسان المعاملة والقيام بالحقوق من غير إفراط ولا تفريط، مما تقبله النفوس السليمة ولا ترفضه الفطر المستقيمة، ولا يخالف أمر الله ورسوله.
ومما أمر الله به أيضًا قوله تعالى:﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [سورةالبقرة، الآية 228]، فهذه الآية تقرر قاعدة الموازنة بين الحقوق والواجبات، وأن كلًّا من الزوجين عليه أن يقوم بما يليق به في إطار المعروف، وهنا يثور السؤال: هل خدمة الزوجة لزوجها تدخل في المعروف الذي أمر الله به؟.
جاءت السنة النبوية بتفصيل عملي لحياة بيت النبوة، فوجدنا أن أمهات المؤمنين كنَّ يقمن بأعمال البيت، وكان النبي ﷺ يساعدهنَّ في تلك الأعمال فكان يخدم نفسه ويُرقع ثوبه ويحلب شاته كما في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “كان رسول الله ﷺ في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة” (رواه البخاري).
وفي حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: “تَزَوَّجَنِي الزُّبَيرُ وَمَا لَه فِي الأَرضِ مَالٌ وَلَا مَملُوكٌ غَيرُ نَاضِحٍ َوغَيرُ فرَسِه قالت: فكُنْتُ أعلِفُ فرَسَه وأكفيه مُؤنتَه وأسوسُه وأدُقُّ النَّوى لِنَاضحِه وَأَعلِفُه وأَستَقِي الماءَ وأَخرُزُ غَرْبَه وَأَعجِنُ وَلَم أَكُنْ أُحسِنُ أخبِزُ فَتَخبِزُ لِي جَارَاتٌ لِي مِن الأَنصَارِ” (رواه البخاري ومسلم).
وكذلك فاطمة رضي الله عنها كانت تطحن وتعجن وتقوم بأعمال البيت حتى أثر ذلك في يديها، فجاءت تطلب خادمًا، فلم يُعطِها النبي ﷺ، بل أرشدها إلى ذكر الله.
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن خدمة المرأة لزوجها وأهل بيتها أمر كان جارياً في بيوت الصحابة، وأقره النبي ﷺ، بل وشارك أحيانًا في بعض الأعمال من باب التواضع والاقتداء.
رأي المذاهب الأربعة حول هل يجب على الزوجة خدمة زوجها؟
مسألة وجوب خدمة الزوجة لزوجها عبرت عنها كتبُ الفقه بطرقٍ متعددة، ولم تكن محل إجماع مطلق، وإنما اختلف الفقهاء بحسب اعتمادهم على نصوص واعتبارهم للعرف:
- من المقرر عند الحنفية أنه من المعروف أن الزوجة تقوم بشؤون البيت، ورأوا أن ذلك من المشهور لا قضاء، بمعنى: لا يُحتسب عليها عَقدًا قائماً يقود إلى الحدّ أو الكفَّارة عند الإخلال، لكنهم يأخذون بالعُرف كثيرًا في تحديد ما يُتوقع من الزوجة.
- المالكية لهم تأملات خاصة؛ فهم يربطون الحكم بالعرف والحالة الاجتماعية، فإذا كانت الزوجة من أهل الإيلاف (يعني كانت معتادة على أن تُخدم)، وكان الزوج غير قادرٍ على توفير مخدومةٍ لها، فقد يلزمها أن تُسدي بعض الخدمات أو أن يتعاون معها الزوج بترتيبات مناسبة، فالمالكية يعلون من قيمة مراعاة العرف والطبقات.
- جمهور الشافعية والحنابلة ذهبوا إلى أن الخدمة ليست واجبة بالمعنى القِسْمِي المطلق في كل حال، لكنها تدخل تحت باب «المعاشرة بالمعروف» و«الحِسن» المرغوب، ويؤخذ في ذلك مراعاة العرف والقدرة، فلا يعطونها حكمًا بالقَسَمِ الذي يترتب عليه مساءلة شرعية بالمعنى الجنائي أو الكفري.
- وجه الاستنتاج العملي عند كثير من العلماء المعاصرين أن الحكم الأقرب للصواب هو وجوب الخدمة بالمعروف أي أن تقوم الزوجة بما جرت به عادة نساء مثلها في وسطها من أعمالٍ يسيرة تتحملها طاقتها، وأن ما زاد على ذلك يدخل في باب الإحسان والتعاون، ويُجمع أن العرف معيار مهم في تقويم نوع الخدمة وكمِّها، وهذا الاتجاه تبرزه فتاوى ومعاجم فقهية معاصرة.
أقوال الفقهاء في حكم خدمة الزوجة لزوجها
- قال بعض السلف والمحدثين من أهل الحديث والفقه: إن الأصل في المعاشرة أن تكون بالمعروف، وأن الخدمة جزءٌ من المعروف، وذكر ابن تيمية أن من أقوال الفقهاء من قال: “تجب الخدمة اليسيرة”، ومنهم من قال: “تجب الخدمة بالمعروف” وأن هذا القول هو الصواب في التعاطي مع النصوص، فهذه القراءة تجمع بين نصوص الرحمة والاعتبار لِقِوى المرأة والعرف.
- أما الكتب الفقهية الكلاسيكية فتنقل التباينات وتؤكد الاحتكام إلى العرف، فإذا كان في عرف الناس أن المرأة من طبقتها تخدم نفسها ولا تُخدم، فكان واجبًا عليها أن تقوم بما جرت به العادة؛ وإن كانت من طبقة تُخدَم عادةً فعلى الزوج توفير الإخدام أو سداد ما يُكرِّس هذا الحال، وذلك مذكور في شروح الفقه وفتاوى معاصرة.
ضابط الخدمة الواجبة من الزوجة لزوجها
من مجموع النصوص وأقوال الأئمة يتبين أن:
-
الخدمة الواجبة هي ما جرى به عرف نساء مثلها لمثل زوجها.
-
الخدمة التي تشق عليها فوق طاقتها، أو ليست من عمل نساء مثلها، فهي غير واجبة.
-
ما زاد على ذلك فهو إحسان تؤجر عليه.
ضوابط الخدمة التي تليق بكرامة المرأة في الإسلام
-
ألا تُكلف فوق طاقتها.
-
أن يراعي الزوج حالها وصحتها.
-
أن يتعاون الزوج معها في بعض الشؤون.
-
أن يكون ذلك في إطار المودة والرحمة لا الإكراه والإذلال.
مقاصد الشريعة في المسألة
الشريعة جاءت لتحقيق المودة والرحمة بين الزوجين، لا لجعل الحياة الزوجية ساحة نزاع على الواجبات، والخدمة إذا صارت سببًا للتنازع، وفقدت روح المودة تحولت من عبادة ومعروف إلى معاندة وإضرار.
ولهذا فإن الحكم الفقهي – وإن كان يقرر وجوب الخدمة بالمعروف – إلا أنه يُربط بالمقصد تحقيق الاستقرار وحسن العشرة، مع مراعاة القدرة والعرف.
واجبات الزوج المقابلة
كما أن على الزوجة أن تقوم بخدمة زوجها بالمعروف، فإن على الزوج أن ينفق عليها، ويوفر لها ما تحتاجه، وقد قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [سورة البقرة، الآية 233]، فإذا كانت الزوجة من ذوات الرفاهية، أو كان العمل المنزلي شاقًا عليها، وجب على الزوج أن يوفر لها خادمًا أو من يعينها، كما عليه النفقة على الزوجة والسكنى والكسوة وحسن المعاملة، فالنبي ﷺ قال: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” [رواه الترمذي].
الفرق بين الواجب الشرعي والعرف المعتبر في الفقه الإسلامي
الشريعة تراعي الأعراف الصحيحة، فإذا جرى العرف في مجتمع ما أن الزوجة تقوم بشؤون البيت من طبخ وتنظيف ونحو ذلك، صار ذلك من المعروف الذي تُطالب به، لكن من غير أن يتحول إلى إلزام يُفقدها كرامتها أو يرهقها فوق طاقتها.
خدمة الزوجة بين الإحسان والواجب: متى تكون لازمة؟ ومتى تكون تطوعًا؟
تكون لازمة إذا جرى بها العرف أو اشترطها الزوج في العقد، أو كانت ضرورة لاستقامة الحياة الزوجية، وتكون من باب التطوع إذا لم يجر بها العرف أو كان الزوج ميسورًا ويستطيع إحضار من يقوم بالخدمة.
أثر الخلق الحسن والتطوع بالخدمة في استقرار البيت المسلم
إن الخلق الحسن والتطوع بالخدمة داخل البيت المسلم من أعظم أسباب الألفة والمودة بين الزوجين، فالكلمة الطيبة، والتعامل برفق، والمبادرة بقضاء حوائج الآخر دون تكليف يزرع في القلب شعورًا بالامتنان والاحترام، وقد علَّمنا الإسلام أن خدمة الإنسان لأهله عبادة يؤجر عليها، كما قال ﷺ: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، فكلما كان الزوج أو الزوجة متطوعًا بالخدمة عن طيب نفس، زاد الترابط وقلَّت الخلافات، وأصبح البيت مأوى للسكينة والرحمة، كما أراده الله: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.
هل واجب على الزوجة الطبخ لزوجها
الأصل في الفقه أن طبخ الزوجة لزوجها ليس واجبًا شرعًا بإلزام النص، وإنما هو من باب العرف والعادة الجارية بين الناس، والعرف معتبر في الشريعة إذا لم يخالف نصًّا، فإن كانت العادة في بيئتها أن الزوجة تقوم بالطبخ وخدمة البيت، كان ذلك من جملة ما يُطلب منها عرفًا، وهو داخل في حسن العشرة، لا في الفرض المحتم، لكن إن تبرعت الزوجة بالطبخ عن طيب نفس، فهو إحسان تؤجر عليه ويزيد الألفة بين الزوجين، وقد أوصى النبي ﷺ بحسن المعاشرة، وجعل الحياة الزوجية قائمة على التعاون والتراحم لا على المشاحنة والمطالبة بالحقوق فحسب.
هل يجب على الزوجة خدمة زوجها ابن باز
الواجب على الزوجة السمع والطاعة لزوجها، وأن تعاشره بالمعروف، كما أمر الله تعالى في كتابه: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [سورة النساء، الآية 19]، وكذلك ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [سورة البقرة، الآية 228]، ومن هذا المنطلق – كما أفاد سماحة الشيخ ابن باز – فالخدمة المعتادة للزوج والحياة المنزلية التي جرت بها العادات بين مثلها ومثله هي واجبة، فإذا كان عرفهنَّ أنه تُخدَم الزوج، فعليها ذلك أيضاً، وإذا كان مثلها يُخدم، فعليه أن يُخدم مثلها، وقد ثبت أن نساء الصحابة – بل فاطمة رضي الله عنها – كنَّ يخدمن أزواجهن في شؤون البيت من طبخ وطحن وكنس وغيرها، ولم ينهَ النبي ﷺ عن ذلك بل قرَّره بالمعاشرة بالمعروف. وإن ثبت أن المرأة تنتمي إلى بيئة تُخدَم فيها عادة، فيُراعى ذلك ويجوز لمن تيسَّر له أن يوفِّر لها خادمة ما دام هذا هو العرف، وإلا فالاصل أنها تخدم زوجها في ما اعتادت عليه البيوت المسلمة.
في الختام، بعد أن عرفنا هل يجب على الزوجة خدمة زوجها؟، نجد ان خدمة الزوجة لزوجها ليست مجرد عمل منزلي، بل هي سلوك تعبدي إذا نُوي به وجه الله، وهي واجبة بقدر ما يوجبه العرف أو الحاجة، ومستحبة على كل حال، والمهم أن تكون الحياة الزوجية قائمة على المعروف والتراحم، لا على النزاع والتشدد.
المصدر