أسد الله…
يحتاج الناس في زمن عزَّ فيه الثبات، وتفرَّقت فيه القلوب إلى من يُوقظ فيهم العزة، ويُذكِّرهم بما يعنيه الإيمان الحق لا بالقول، بل بالفعل والدم والموقف، فهي ليست سيرة لرجل مضى، بل سيرة أسد لا يزال زئيره يُدوِّي في صفحات التاريخ، ورجلٌ نُقش اسمه في السماء قبل أن يُسجَّل على الأرض، ولُقب بلقب لم يُمنح لغيره: “أسد الله وأسد رسوله”، وفي ميدان الشهادة، لقَّبه النبي ﷺ بلقب “سيد الشهداء”.
فمن هو هذا الصحابي الذي غيَّر موازين مكة، ونقل الدعوة من الاستضعاف إلى القوة؟، ومن هو هذا البطل الذي بكاه رسول الله ﷺ بدمعٍ لم يَبكِ به أحدًا غيره؟.
سنأخذك في هذا المقال في رحلة إيمانية ماتعة إلى سيرة رجلٍ جمع المجد من أطرافه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فتأهَّب لقراءة قصة لن تنساها قصة الأسد الذي لم يمت.
نشأة أسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
وُلد حمزة بن عبد المطلب في مكة، في بيتٍ من أشرف بيوت قريش، وكان من بني هاشم، أبناء عبد مناف، عم رسول الله ﷺ أي من نفس نسب النبي ﷺ، وكان أخوه في الرضاعة، وكانت أمه “هالة بنت وهيب” ابنة عم ” آمنة بنت وهب” أم النبي ﷺ ، فهو من جهة الأب والرضاعة والنسب والنصرة، أقرب الناس إلى رسول الله ﷺ.
وكان في الجاهلية فارسًا معروفًا ذا بأس وقوة، عُرف بحب الصيد والقتال، وكان إذا ركب الفرس، لم يقدر عليه أحد، وقال عنه أهل مكة قبل الإسلام: “إذا دخل حمزة دارًا، صمت الناس، وإذا تكلم، أُصغي له”.
لماذا لُقِّب حمزة بن عبد المطلب بـ “أسد الله”؟
لُقِّب حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ب “أسد الله”، لأن شجاعته فاقت الوصف، وكان لا يخشى الموت، بل يبتغيه في سبيل الله، كما أنه أول من رفع راية الإسلام بعد الدعوة، وإيمانه لم يكن من أجل مكسب دنيوي، بل غضبًا لله، ونصرة للحق، وقد جمع بين النسب والقرب، والدين، والبطولة.
صفات أسد الله حمزة بن عبد المطلب
لم يكن حمزة رضي الله عنه بطلًا في الحرب فقط، بل كان آيةً في الخَلق والخُلق، فقد كان طويل القامة، عريض المنكبين، قوي البنية، وإذا مشى هابته الناس، وإذا نطق أصغى له الجمع.
وكانت ملامحه تشبه ملامح النبي ﷺ كثيرًا، حتى إن بعض الرواة قالوا: “ما كان يشبه أحدٌ رسول الله ﷺ مثل حمزة”، أما خُلقه، فكان كريم النفس، عفيف اللسان، نقي القلب، وكانت فيه مروءة العرب، وشهامة السادة، وحكمة الكبار، وكان إذا وَعَد وَفَى، وإذا خاصم عفا، وإذا قدر سامح.
إسلام أسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وجهاده
ما أسلم حمزة عن دعوة، ولا عن مناظر، بل أسلم لغيرته على رسول ﷺ، فقد كان النبي ﷺ يومًا عند الكعبة يدعو إلى الله، فمرَّ عليه أبو جهل، فشتمه وآذاه أمام الناس، ولم يكن أحد من الصحابة بقادر أن يرد، وعندما عاد حمزة في المساء من الصيد حاملاً قوسه، وعرف ما حدث، فأسرع إلى الكعبة، ووجد أبا جهل جالسًا بين رجال قريش، فرفع قوسه، وضرب بها أبا جهل على رأسه وقال: “أتشتم محمدًا وأنا على دينه؟ أقول ما يقول، فرد علي إن استطعت”
وفي لحظة أعلن إسلامه، فاهتزت مكة، وقالت قريش: “اليوم انتصف محمد، فقد أسلم حمزة”، ومنذ تلك اللحظة كان إسلام حمزة رضي الله عنه نقطة تحوُّل في مسار الدعوة، لأن قومه خشوا بطشه، ولم يجرؤ أحد بعدها أن يمسَّ النبي ﷺ بسوء إلا دفع الثمن.
حين كانت غزوة بدر أول المعارك الكبرى، وقف حمزة رضي الله عنه أمام صفوف المؤمنين، بسيفين في يده، وكان يومئذ أول من حمل شعار الإسلام في الحرب، وبارز عتبة بن ربيعة، أحد أشجع رجال قريش، فصرعه في لحظات، ثم قاتل قتال الأسود، وكان صوته في المعركة يرعب قلوب الكفار، فقد كان يُكبر ويقول: “الله أكبر، أنا ابن عبد المطلب” فيفرًّ من أمامه الفرسان.
دور أسد الله في حماية النبي ﷺ قبل الهجرة
كان المسلمون في مكة قبل الهجرة مستضعفين، وكانت قريش تمارس عليهم أنواع الأذى والاضطهاد، لكن وجود حمزة رضي الله عنه في صفوف المسلمين أحدث توازنًا حقيقيًا، فقد كانت له هيبة تمنع الكفار من التمادي في أذية النبي ﷺ.
وكان كثيرًا ما يقف بجانبه علنًا، فيرد الشتم بالشتم، والعدوان بالرد، ويقول لقريش: “من أراد محمدًا، فليأتِ من أمامي”.
استشهاد أسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في غزوة أحد
لم تكن غزوة أُحد كسابقاتها، ففيها كان الموعد مع البطولة، والدم، والشهادة، وخرج حمزة رضي الله عنه في غزوة أُحد، وعمره فوق الستين، لكنه كان في صفوف المقاتلين كما لو كان في الأربعين، وقاتل قتال الأبطال، وأسقط من الكفار ما يقرب من ثلاثين فارسًا، وكان يردد بأعلى صوته: ” الله أكبر، أنا أسد الله ورسوله”
لكنَّ رجلًا كان عبد جُبير بن مطعم واسمه وحشي بن حرب عبد حبشي، وكان قد وُعده جُبير بالحرية إن قتل حمزة، فترصَّده من بعيد، وألقاه بحربته الغادرة من وراء الصخور، فاستشهد حمزة، وهو يقاتل غير ملتفت.
حين انتهت المعركة، وبحث النبي ﷺ عن عمِّه حمزة، وجده قد قُتل، ثم مُثّل بجسده تمثيلًا بشعًا – شُقَّ بطنه، وبُقرت كبده، فبكى النبي ﷺ بكاءً مريرًا، وقال: “لن أصاب بمثلك أبدًا يا عمَّاه… ما وقفتُ موقفًا أغيظ لي من هذا” (رواه الطبراني)، وقال عنه ﷺ أيضًا: “حمزة سيد الشهداء عند الله يوم القيامة” (رواه الحاكم)، وكان إذا ذكره بعد وفاته دمعت عيناه ﷺ.
كما قال ﷺ : ” لولا أن تحزن صفية لتركته حتى يُحشر من حواصل الطير وبطون السباع “. وقال صلى الله عليه وسلم: ” جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب في أهل السماوات السبع حمزة ابن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله”.
قبره ومكان دفنه
دُفن حمزة رضي الله عنه في أحد، عند سفح جبل الرماة، في المكان الذي سقط فيه، ولا يزال يُزار قبره حتى اليوم، ويعرف بـقبر سيد الشهداء، وكان النبي ﷺ يعود لزيارة قبره في أوقات متفرقة، ويقف عنده، ويدعو له.