يُعد القرآن الكريم أعظم كتاب أُنزل على البشرية، فقد جاء جامعًا للهدى والنور والتشريع، يخاطب القلوب والعقول معًا، ومن بين آياته العظيمة التي تحمل معاني جليلة وتاريخًا خالدًا، آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الواردة في سورة المائدة، حيث يقول الله تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” (سورة المائدة، الآية 3).
هذه الآية هي من أعظم آيات كتاب الله، حيث أعلنت اكتمال الرسالة الإلهية وتمام نعمة الله على الأمة المحمدية، وقد ارتبط نزولها بحدث تاريخي عظيم في الإسلام جعلها آية خالدة في ذاكرة المسلمين لما فيها من البشارة والطمأنينة والدلالة على عظمة هذا الدين.
سنتعرف في هذا المقال على:
-
متى نزلت هذه الآية الكريمة؟
-
ما المناسبة العظيمة التي ارتبطت بها؟
-
ماذا قال العلماء والمفسرون حول معانيها ودلالاتها؟
-
وكيف كان أثرها على الصحابة رضي الله عنهم؟
-
وما الرسائل العميقة التي تحملها للمسلمين في كل زمان؟
متى نزلت آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
اتفق جمهور أهل العلم أن آية “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ” نزلت على رسول الله ﷺ في حجة الوداع سنة عشر للهجرة، وهي الحجة الوحيدة التي حجها النبي بعد الهجرة، وكان ذلك في يوم عظيم هو يوم الجمعة، الموافق لـيوم عرفة، التاسع من ذي الحجة.
فقد ورد في صحيح مسلم أنه: جاء رجل من اليهود إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأي آية، قال: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا”، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم جمعة.
فهذا الحديث الشريف من أصح ما ورد في تحديد وقت نزول الآية ومكانها، حيث يؤكد أنها نزلت والنبي واقف بعرفة يخطب في الناس أثناء حجة الوداع.
كان هذا اليوم إعلانًا أن الله قد أكمل لعباده دينهم الذي ارتضاه لهم، فلا زيادة فيه بعد اليوم ولا نقصان، وأنه قد بيَّن لهم الحلال والحرام، وأقام لهم شرائع الإسلام وأركانه وأحكامه، حتى أصبح الدين كاملًا واضحًا لا يحتاج إلى إضافة.
عظمة يوم نزول آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
اجتماع يوم عرفة ويوم الجمعة في يوم نزول الآية أمر ذو دلالة عظيمة، فـيوم عرفة هو خير أيام السنة وأعظمها، ويكفيه شرفًا أنه يوم الحج الأكبر، الذي يقف فيه المسلمون جميعًا على صعيد واحد يدعون الله ويلبون نداءه.
أما يوم الجمعة فهو سيد الأيام، وهو اليوم الذي فضَّل الله فيه أمة الإسلام، فاجتماع هذين اليومين كان إيذانًا بأن حدثًا عظيمًا سيقع، فجاءت هذه الآية لتعلن اكتمال الدين وتمام النعمة.
أثر آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) على الصحابة
كان وقع هذه الآية على الصحابة رضي الله عنهم عظيمًا؛ حيث فرحوا بأن الله قد أكمل لهم الدين غير أن بعضهم بكى خشية أن يكون اكتمال الدين إيذانًا بانتهاء مهمة النبي ﷺ واقتراب أجله، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه بكى حين سمع الآية، وقال: “إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان”، وكان كما قال؛ فقد توفي رسول الله ﷺ بعد حجة الوداع بقرابة ستين يومًا.
تفسير آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
جاءت لتدل دلالة قاطعة على أن الإسلام قد اكتمل تشريعًا وعقيدة وأخلاقًا وأحكامًا، فلا يجوز لأحد أن يزيد فيه أو ينقص منه، وقال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره: “هذه أعظم آية في كتاب الله بيانًا لفضل الإسلام وكماله، وأنه لا يحتاج إلى زيادة أبدًا”.
(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)
إتمام النعمة هو أن الله أتمَّ على عباده أعظم نعمة وهي نعمة الإسلام، وهدايتهم إليه بعد أن كانوا في جاهلية وضلال، فنعمة الهداية والتوحيد لا تعادلها نعمة.
(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
أي أن الله ارتضى لعباده الإسلام، فلا يقبل منهم دينًا غيره، كما قال تعالى في موضع آخر: “وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ“ (سورة آل عمران، الآية 85).
مكانة الآية في حياة المسلمين
-
هذه الآية الكريمة كانت إعلانًا واضحًا بأن الإسلام قد اكتمل، وأن باب الوحي والتشريع قد أُغلق بوفاة النبي ﷺ، ولذلك اعتبر العلماء هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن الكريم من حيث الأحكام.
-
أراد الله عز وجل أن يحفظ شريعته من أي زيادة أو نقصان بعد وفاة النبي ﷺ، فجاءت هذه الآية لتكون حجة قائمة على كل من يحاول الابتداع في الدين أو تبديله.
- تدل الآية كذلك على أن الإسلام دين شامل لكل ما يحتاجه الإنسان في حياته: عقيدةً وعبادةً ومعاملةً وأخلاقًا، وأنه صالح لكل زمان ومكان.
أقوال العلماء في عظمة آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: “هذه أكبر نعم الله على هذه الأمة، حيث أكمل لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم”.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: “من استحسن فقد شرع، فمن زاد في الدين أو نقص منه فقد طعن في كماله”.
الدروس المستفادة من آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
-
التمسك بالإسلام كاملاً، فالدين قد اكتمل، ومن ترك شيئًا منه فقد ضيّع النعمة التي أتمها الله.
-
الحذر من البدع، فكل ما لم يشرعه الله ورسوله ﷺ فهو مردود على صاحبه.
-
شكر نعمة الإسلام، فهي أعظم النعم التي منَّ الله بها علينا.
-
الثقة في صلاحية الإسلام لكل زمان؛ لأن الله أكمله وأتمه فلا يحتاج إلى تعديل.
شبهات وردت حول آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) والرد عليها
✨يقول بعض المشككين: إذا كان الله يقول في الآية: “اليوم أكملت لكم دينكم”، فهذا يعني أن الدين قبل ذلك كان ناقصًا، وإذا كان ناقصًا، فكيف يكون دينًا من عند الله؟ وكيف يعيش المسلمون طوال سنوات الرسالة بدين غير كامل؟.
والحقيقة أن معنى “أكملت” لا يعني أن ما سبق كان ناقصًا في ذاته، والمراد بكلمة “أكملت” في الآية أن الله تعالى قد أتم الدين وأكمل بناءه، أي أتم إنزال جميع التشريعات والأحكام، فالدين قبل نزول الآية لم يكن ناقصًا بالمعنى المذموم، بل كان في طور التدرُّج في التشريع، وهو منهج رباني حكيم يناسب طبيعة البشر، والتشريع كان يُنزَّل بحسب الوقائع والحاجة تمامًا كما تُبنى العمارة حجرًا فوق حجر حتى تكتمل، وقال الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره: “لم يكن الدين قبل ذلك ناقصًا بمعنى النقصان المذموم، بل كان الله يُنزِّل الأحكام شيئًا بعد شيء حتى كملها يومئذ”.
والحكمة من التدرج في التشريع أن الإسلام نزل على أمة عاشت قرونًا في الجاهلية، وكان من رحمة الله أن لا يُنزِّل كل الأحكام دفعة واحدة مثل تحريم الخمر الذي جاء على مراحل، فلو حُرِّم فجأة من البداية لكان شاقًا على الناس، وكذلك أحكام الزكاة والربا والمواريث وغيرها جاءت تباعًا بحسب ما يهيئ الله به القلوب، وهذا التدرج ليس نقصًا، بل كمال في الحكمة والرحمة، ليتمكَّن الناس من الامتثال دون مشقة عظيمة، وقال الإمام القرطبي رحمه الله: “التدرج في الأحكام من كمال الشريعة، لأنها تراعي مصالح العباد وما جبلوا عليه”.
الدين كان كاملاً في كل مرحلة بما يوافقها، وبالنسبة لما نزل من أحكام فيها، فلا خلل ولا تقصير في التوجيهات التي تلقاها المسلمون، فالكمال الذي تشير إليه الآية إنما هو اكتمال البناء التشريعي كله، لا أن الدين كان معيبًا قبله، ويشبه ذلك بناء البيت، فكل طابق من طوابقه متين وكامل في ذاته، لكن لا يُقال إن البيت اكتمل حتى يتم بناءه كاملاً.
✨ يقول بعض المشككين: كيف يكون الدين كاملًا إذا كان المسلمون قد اختلفوا فيما بينهم بعد وفاة النبي ﷺ وظهرت المذاهب والاجتهادات الفقهية المختلفة؟ أليس هذا دليلًا على نقص الدين؟.
والرد على هذه الشبهة أن اكتمال الدين يعني أن أصوله وأركانه وأحكامه الأساسية قد وضحت تمامًا، وليس معناه أن الناس لن يختلفوا في بعض الفروع أو التفاصيل، فالاختلاف الفقهي والاجتهادي هو من سعة الشريعة ورحمة الله بالأمة، لأنه يُظهر مرونة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، فالإمام الشاطبي رحمه الله قال: “الاختلاف في الفروع رحمة واسعة، ولم يكن خروجًا عن كمال الدين”.
والمذاهب الأربعة وغيرها من الاجتهادات لم تضف شيئًا جديدًا إلى الدين، بل اجتهدت في فهم النصوص الثابتة، أما ما كان من ابتداع أو خروج عن الكتاب والسنة فهو مردود على صاحبه بنص الحديث: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” (رواه البخاري ومسلم).
✨قال بعض المغرضين: إذا كان الدين قد اكتمل قبل 1400 سنة، فكيف يصلح لعصرنا الحالي الذي تغيرت فيه الظروف؟ أليس اكتمال الدين يعني أنه أصبح جامدًا غير مواكب للتطورات؟.
والرد على هذه الشبهة أن اكتمال الدين يعني أنه جاء شاملًا وقابلًا للتطبيق في كل زمان ومكان، لأن أصوله قطعية لا تتغير، وفروعه مرنة قابلة للاجتهاد بما يتوافق مع مقاصد الشريعة، فالإسلام وضع القواعد الكلية التي تنظم حياة الإنسان في كل عصر، وترك مساحة واسعة للاجتهاد في الأمور المتغيرة، والإمام الشافعي قال: “ما من حادثة إلا وفي كتاب الله دليل عليها أو في سنة رسول الله ﷺ بيان لها أو في اجتهاد العلماء المستند إلى النصوص”، ولذلك فإن اكتمال الدين دليل على كماله وشموله وليس العكس.
في الختام، آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إعلان رباني خالد بأن الإسلام قد اكتمل، وأن الله قد رضي لعباده هذا الدين فلا يرضى عنهم بغيره، ونزولها في يوم عرفة يوم الجمعة، بحضور مئة ألف من الصحابة في حجة الوداع، جعلها حدثًا خالدًا في تاريخ الأمة الإسلامية، فعلينا اليوم أن نستحضر عظمة هذه الآية في حياتنا، فنزداد تمسكًا بديننا، واعتزازًا به، وشكرًا لله على أن هدانا إليه، وحرصًا على تبليغه للعالمين كما بلَّغه النبي ﷺ “فمن تمسك بهذا الدين عاش سعيدًا ومات سعيدًا، ومن أعرض عنه فقد خسر الدنيا والآخرة”.
المصدر