ماذا يشرع عند زيارة القبور؟، إذا كانت الدنيا دارَ غفلة ولهو، فإن القبور دار موعظةٍ واعتبار، فالمسلم يخرج من ضوضاء الحياة وضجيجها، ليقف أمام شواهد صامتة لكنها أبلغ من كل خطيب، وكل قبر يحدِّثك بلا لسان: “هنا كان إنسانٌ مثلك، يأمل ويعمل ويعيش، فأصبح تحت التراب ينتظر رحمة الله أو عقابه”، ومن هنا جاءت مشروعية زيارة القبور في الإسلام، لا لغاية دنيوية، ولا لممارسات مبتدعة، وإنما لتربية القلب وتذكير النفس بمصيرها الحتمي.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «كنتُ نهيتُكم عن زيارَةِ القبورِ ألا فزورُوها ، فإِنَّها تُرِقُّ القلْبَ ، و تُدْمِعُ العينَ ، وتُذَكِّرُ الآخرةَ ، ولا تقولوا هُجْرًا»، ويُلخِّص هذا الحديث النبوي الغاية الكبرى ألا وهي التذكير بالآخرة، والدعاء للميت، وتربية النفس على الخشوع والاعتبار.
مشروعية زيارة القبور في القرآن والسنة
لم يرد في القرآن أمر مباشر بزيارة القبور، لكن جاءت إشارات قوية لمعنى الاعتبار بالموت، فالله تعالى قال في كتابه الكريم:﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ [سورة التكاثر، الآيتين 1-2]، فجعل زيارة القبور أمرًا محتومًا على كل إنسان سواء زيارة حي للموعظة، أو زيارة ميت يُدفن فيها.
أما السنة النبوية فقد فصلت القول، إذ أذن النبي ﷺ بعد النهي في أول الإسلام، فقال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» (رواه مسلم)، وجاء عنه ﷺ أنه كان يزور البقيع فيدعو لأهله: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»، وكل هذه النصوص تؤكد أن زيارة القبور سنة مؤكدة، وهي عبادة قلبية وسلوكية لها أثر بالغ في حياة المسلم.
الحكمة من زيارة القبور
- تذكير بالموت والآخرة، فالقلوب تضعف أمام زينة الدنيا، ولا شيء أبلغ في ردَّها إلى رشدها من مشهد القبور.
- إحياء معاني الزهد، فزيارة المقابر تذكرك أن المال والجاه والسلطة تنتهي، ويبقى العمل الصالح وحده.
- الدعاء للميت، وذلك نفع متعدٍ، حيث يستفيد الميت من دعاء الأحياء واستغفارهم.
- صلة الرحم بعد الموت، فبزيارة قبور الوالدين والأقارب، وإهداء الدعاء لهم، يبقى البر متصلًا حتى بعد وفاتهم.
آداب زيارة القبور
النية الصادقة
الزيارة عبادة، والعبادة لا تصح إلا بالنية، فليجعل المسلم قصده رضا الله، والتذكر بالآخرة، والدعاء للميت، لا التفاخر أو الاجتماع المظهري.
الطهارة والوقار
ليس شرطًا الوضوء، لكنه أدبٌ حسن، لأن الدعاء أرجى مع الطهارة، ويلبس المسلم لباسًا محتشمًا، ويكف عن الضحك أو الكلام الدنيوي.
السلام على أهل القبور
من السنة أن يبدأ الزائر بالسلام، فيقول:«السَّلامُ عليْكم أَهلَ الدِّيارِ مِنَ المؤمنينَ والمسلمينَ، وإنَّا إن شاءَ اللَّهُ بِكم لَلاحقونَ، أنتُم لنا فرَطٌ ونحنُ لَكم تبعٌ، أسألُ اللَّهَ لنا ولَكم العافيةَ»، وفي رواية أخرى “السَّلامُ على أهْلِ الدِّيارِ مِنَ المؤمنينَ والمُسلمينَ، ويَرْحَمُ اللهُ المُستَقْدمينَ مِنَّا والمُستَأخرينَ، وإنَّا إن شاء اللهُ بكم لَلاحِقونَ”، وهذا الدعاء رواه مسلم، وهو تحية ورحمة للميت، وتذكير للحي أنه لاحق لا محالة.
الدعاء للميت
الدعاء هو لبُّ الزيارة، فقد قال النبي ﷺ: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل» (رواه أبو داود)، ومن أجمل الأدعية:
-
اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه.
-
اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة.
-
اللهم اجعل عمله شفيعًا له يوم يلقاك.
التواضع والخشوع
زيارة القبور ليست نزهة، بل عبادة، فلا يرفع الزائر صوته، ولا يتكلم بأحاديث الدنيا، ولا ينشغل بالتصوير أو الهاتف.
ماذا يشرع عند زيارة القبور؟
الدعاء والاستغفار
اتفق العلماء أن أنفع ما يقدمه الحي للميت هو الدعاء والاستغفار، فقد جاء في الحديث الشريف: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم).
الصدقة عن الميت
يجوز للزائر أن يتصدق بنية الميت سواء مالًا أو طعامًا للفقراء، فيصل ثوابها إليه، وقد سألت امرأة النبي ﷺ: «يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم» (رواه البخاري ومسلم).
قراءة القرآن عند القبر
وهنا اختلف العلماء:
-
الجمهور (الحنابلة والحنفية وطائفة من الشافعية) قالوا بجواز القراءة عند القبر وإهداء الثواب للميت.
-
المالكية وبعض الشافعية رأوا أن ذلك ليس من السنة، والأولى الاقتصار على الدعاء.
والراجح أن القراءة مشروعة إذا قصد بها القربة لله وإهداء ثوابها للميت، لكن دون اعتقاد لزوم أو هيئة مخصوصة.
ما يُنهى عنه عند القبور
-
الاستغاثة بالميت، وهذا من الشرك، فالميت لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فكيف لغيره؟.
-
النياحة ورفع الصوت بالبكاء، فالنبي ﷺ قال: «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» (رواه البخاري).
-
الجلوس أو المشي على القبور، فالنبي ﷺ قال: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر» (رواه مسلم).
-
بناء المساجد على القبور، فالنبي النبي ﷺ نهى عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من فعل ذلك من اليهود والنصارى.
-
إشعال الشموع أو وضع الأطعمة، فهي من العادات المبتدعة التي لا أصل لها في الشرع.
حكم زيارة النساء للقبور
هذه المسألة من أكثر ما دار حوله الخلاف:
-
الرأي الأول (الجمهور) يرون كراهة زيارة النساء للمقابر، استنادًا إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه “أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لعَنَ زوَّاراتِ القُبورِ”.
-
الرأي الثاني (بعض الحنفية والمالكية) أجازوا زيارة النساء إذا أُمِنت الفتنة، واستدلوا بأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، وقالت: ما نهيت عن الزيارة إلا في أول الإسلام ثم أُذن لنا.
والأرجح أن زيارة النساء جائزة إن التزمن بالآداب، ولم يكن في ذلك فتنة أو محذور شرعي.
كيف ينفع الحي الميت بعد زيارته؟
-
الدعاء المستمر، فهو أعظم ما يقدَّم.
-
الصدقة الجارية عنه كبناء مسجد، أو وقف مصحف، أو حفر بئر.
-
صلة أرحامه بعده، وبر أقاربه والإحسان إليهم.
-
الحج والعمرة عنه إذا لم يكن قد أداها.
زيارة القبور تُذكِّرك أنك مسافر، وأن كل خطوة إلى الدنيا تقرِّبك خطوة من الآخرة، فاجعل زيارتك صلة بينك وبين ربك، لا بينك وبين عادات المجتمع.
كما أن زيارة القبور عبادة قلبية وسلوكية، مَن التزم آدابها خرج منها بقلبٍ خاشع، وعقلٍ متذكر، ولسانٍ ذاكر، وميتٍ نفعه الدعاء.
ماذا يقال عند زيارة القبور
عند زيارة القبور يُشرع للمسلم أن يسلم على أهلها ويدعو لهم بالرحمة والمغفرة، كما علَّمنا النبي ﷺ أن نقول: «السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية».
في الختام، حين يتأمل المسلم في سؤال: ماذا يشرع عند زيارة القبور؟ يجد أن الجواب يتجاوز مجرد أفعال محدودة، ليصبح رحلة إيمانية تُصفّي القلب وتربط العبد بربه، فالزيارة المشروعة هي التي تُذكرك بمصيرك، وتفتح لك باب الدعاء لغيرك، وتجعلك أكثر حرصًا على طاعة الله قبل أن تُودع في التراب.
إن زيارة القبور ليست نهاية حديث مع الأموات، بل بداية حديث صادق مع نفسك: ماذا أعددت ليوم الرحيل؟ هل سيكون قبري روضة من رياض الجنة أم حفرة من حفر النار؟.
المشروع فيها أن تبدأ بالسلام والدعاء، وأن تبتعد عن المظاهر المبتدعة، وأن تجعل من لحظة الوقوف بين القبور موعدًا لتجديد العهد مع الله، وهكذا تكون الزيارة عبادة خاشعة ينتفع بها الميت بالدعاء، وينتفع بها الحي بالاعتبار.
فما أجمل أن نغتنم كل زيارة للقبور لنكتب بها سطرًا جديدًا في صحيفة أعمالنا، ولنجعلها جسرًا يصل بين الأحياء والأموات برحمة ودعاء وذكرى باقية.
المصدر