إعرف دينكأسئلة

لماذا لم تبدأ سورة التوبة بالبسملة؟

هل تعرف لماذا لم تبدأ سورة التوبة بالبسملة؟

Spread the love
لماذا لم تبدأ سورة التوبة بالبسملة؟

لماذا لم تبدأ سورة التوبة بالبسملة؟، حين يفتح المؤمن مصحفه تتسابق عينه إلى «بسم الله الرحمن الرحيم» في مطالع السور، وكأنها مفتاح الرحمة وباب الأمان،  غير أنَّه إذا بلغ سورة التوبة، فاجأه المشهد؛ فلا بسملة تتصدَّر، ولا افتتاح يلينُ وقعَ الآيات، بل تبدأ السورة بكلمةٍ حاسمة: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وهنا يتوقَّف القلب قبل العقل، ويسأل: لماذا استُثنيت هذه السورة وحدها من ذلك الافتتاح المبارك؟ أهو سهوٌ في الكتابة؟ أم سرٌّ مقصود أودعه الوحي؟
هذا السؤال ليس طارئًا على القلوب؛ فقد شغل أذهان الصحابة والتابعين، وتناقله المفسرون ودارسو علوم القرآن، وتعددت فيه الأقوال بين الأثر والمعنى، وبين سياق النزول ومقاصد التشريع.

سنتعرف في هذه السطورمعًا على الجواب، ونستنطق التاريخ والآثار، ونستكشف أسرار الربط بين «الأنفال» و«براءة»، حتى يتضح لنا أن غياب البسملة هنا ليس نقصًا، بل حكمة بالغة، وسنَّة متَّبعة، ورسالة من السماء في زمن الحسم والعدل.

لماذا لم تبدأ سورة التوبة بالبسملة؟
لماذا لم تبدأ سورة التوبة بالبسملة؟

ما منزلة البسملة في مطالع السور؟

البسملة مهمة جدًا في الإسلام في القراءة والكتابة والعبادة، وهي آيةٌ في كتاب الله بنصِّ {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [سورة النمل، الآية 30]، وقد اتَّفق المسلمون على كتابتها في أوائل السور، إلا سورة براءة، واختلف أهل العلم: هل البسملة آيةٌ من كل سورة أم للفصل بين السور؟

  • ذهب الشافعية وطائفة من أهل القراءات إلى أنها آيةٌ في أوائل السور (عدا براءة)، وعليه عُدّت في الفاتحة آيةً عند كثير منهم.

  • وذهب المالكية والحنفية —في الجملة— إلى أنها ليست من السور، لكنها كُتبت للفصل والتبرك.

هذه اللمحة مهمة؛ لأنها تضعنا أمام الاستثناء القرآني الوحيد: لم تُكتب البسملة في أول سورة التوبة، ولا تُقرأ في افتتاحها في التلاوة المجوَّدة، وهذا ما سيكشف سرَّه في هذا المقال.

سياق نزول سورة التوبة

نزلت «براءة» في العام التاسع للهجرة —عام الوفود— حين انتقل المجتمع المسلم من طور الاستضعاف إلى طور الدولة والسيادة، وأُذِن للمسلمين بإعلان البراءة من عهود المشركين الذين نقضوا المواثيق، وإبلاغهم بأجلٍ مسمَّى—أربعة أشهر—ثم لا حَجَّ بعد اليوم لمشرك، ولا طوافَ عريانًا، ولا يجتمع في البيت توحيد وشرك.

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ بعث أبا بكرٍ أميرًا على الحج في تلك السنة، ثم أتبعه بعليٍّ رضي الله عنه ليؤذِّن في الناس بأوائل «براءة» يوم النحر، وفيها: «لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان»

ومضمونُ هذا الإعلان يُظهر نبرة السورة ومقصدها: تنظيم العلاقة مع مَن نكثوا العهود، وإقامة كلمة التوحيد، وكشف صفوف المنافقين، وبيان أحكام الجهاد والولاء والبراء، وهذا السياق سيبدو بعد قليل مفتاحًا لفهم ترك البسملة في صدرها.

أهم الأقوال حول لماذا لم تبدأ سورة التوبة بالبسملة؟

1) قول الجمع بين الأنفال وبراءة في رسم المصحف (أثر عثمان رضي الله عنه)

هذا هو القول الأشهر والأقوى عند جمهور المحدِّثين والقراء أنَّ الصحابة عند جمع المصحف في خلافة عثمان رأوا أن موضوع «براءة» يشبه موضوع «الأنفال» من جهة الحديث عن الجهاد والقتال والغنائم والعلاقات مع غير المسلمين، وكان نزول السورتين متقاربًا، فلَم يثبت عندهم نصٌّ قاطع بأن «براءة» سورةٌ مستقلة ببسملةٍ في أوِّلها؛ لذلك وُضعت بعد الأنفال دون كتابة البسملة بينهما.

مستند هذا القول ما رُوي عن ابن عباس أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنهما عن سبب جمعهما، فأجابه عثمان—ومعناه—: «كانت الأنفال من أوائل ما نزل، وبراءة من آخر ما نزل، وكانت قصتهما متشابهة، وقُبِض رسول الله ﷺ ولم يُبيِّن لنا أنها منها، فظننت أنها منها، فمن ثم قرنتُ بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم».

نقل هذا الأثر ابن أبي داود في كتاب المصاحف، وأثبته الزركشي في البرهان والسيوطي في الإتقان، وذكره القرطبي وابن كثير في تفسير مطلع السورة. وقد حسَّن بعض أهل العلم طرقه، وفي بعضها مقالٌ، لكنه مشهورٌ متداولٌ عند الأئمة، وعليه بنى القراء أحكام الوصل والوقف بين السورتين.

دلالة الأثر:

أن الترتيب العثماني في المصحف راعى الموضوعية (تشابه المقاصد) مع التوقيف فيما ثبت نصُّه، وأن عدم كتابة البسملة ليس إلغاءً لمعناها، بل تحفُّظٌ؛ لعدم وجود دليلٍ قاطعٍ على استقلال السورة ببسملةٍ أولى زمن الجمع.

2) قول: لأن «براءة» سورةُ السيف والبراءة فلا يناسبها «الرحمة»

نُقل عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: «إن بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أمانٌ، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان».

والمعنى أن البسملة تفتتح بالرَّحمة والأمان، بينما «براءة» تُعلن سقوط الأمان عن فئامٍ من المشركين الناكثين؛ فناسب تركها في صدر السورة، وهذا القول مأثور في كتب علوم القرآن (الإتقان للسيوطي، البرهان للزركشي)، غير أن أسانيده فيها ضعف عند المحدِّثين، ولذلك يرجِّح الأئمة أن الحكمة المعنوية هنا تُذكر تبَعًا، لا أصلًا، أي: قد تكون موافِقة لجو السورة ومقاصدها، لكنها ليست العلة الوحيدة الحاسمة.

3) قول: تأخر نزولها، ووفاة النبي ﷺ قبل أن يعيِّن موضع بسملتها

يرى فريق من أهل العلم أن «براءة» من أواخر ما نزل من القرآن، وأن النبي ﷺ توفَّي قبل أن يبلِّغ الصحابة تعيين بسملة لها في المصحف، فبقي الأمر على الوقف حتى جمع عثمان المصحف، فاختار ما تقدَّم من الإلحاق الموضوعي، وهذا قريبٌ من القول الأول، لكنه يركِّز على توقيت النزول وتوقُّف النص في شأن بسملتها.

4) قول التوقيف المحض: ترك البسملة تعبُّدًا بلا تعليل

وهو مذهب معتبر أن المصحف العثماني توقيفيٌّ في الجملة، فما وُجد فيه فحكمه ما فيه، وعدم كتابة البسملة في أوَّل «براءة» سُنَّةٌ متَّبَعة، لا نكلِّف أنفسنا البحث عن تعليل قاطع له، وإن كان المعنى —بوصف السورة ومقصدها— يهوِّن الاستغراب، وهذا القول يُعلِّمنا الأدب مع النص نتَّبع حيث ثبت التوقيف، ونعقل حيث اتَّسعت الدلالة.

الرابط بين سورة «الأنفال» وسورة «براءة»

القرآن يُفسِّر بعضه بعضًا، ومن تأمَّل موضوع الأنفال وبراءة وجد تشابهًا بديعًا:

  • الأنفال تتناول أحكام الجهاد والغنيمة، وضبط الانضباط القتالي، وتقويم الصف المؤمن في المعركة.

  • براءة تنتقل من تقرير الأحكام إلى حسم العلاقة مع المشركين الناكثين، وكشف المنافقين وتحذير المؤمنين من التخلُّف والتثاقل.

هذا التواشج الموضوعي يُفسِّر جوار السورتين في المصحف، ويُقوِّي الاستثناء في ترك البسملة بينهما؛ إذ لو كُتِبت البسملة لأوهمت —في عُرف الرَّسْم— فصلًا بيانيًّا بيّنًا، بينما اقتضت الحكمة الجمعيَّة إبقاء الرابطة ظاهرًا.

كيف نتعامل تلاوةً مع مطلع «براءة»؟

اتَّفق القرَّاء على عدم الإتيان بالبسملة عند افتتاح «براءة»، فإذا فرغ القارئ من «الأنفال»، فله —على ما ذكر أهل الأداء— طريقتان معتبرتان:

  • القطع: أن يقف على آخر «الأنفال»، ثم يَبتدئ «براءة» من غير بسملة.

  • الوصل: أن يصل آخر «الأنفال» بأوّل «براءة» من غير بسملة، مع مراعاة أحكام الوصل.

أمَّا السَّكت (أي الوقف الخفيف بلا تنفُّس) فذكره بعض أهل الأداء، والمشهور عند كثير من الأئمة الاقتصار على القطع أو الوصل بلا بسملة، وفي الصلاة الجهرية إذا قرأ الإمام من أوَّل «براءة»، لا يبسمل جهرًا ولا سرًّا في الافتتاح الخاص بالسورة، وإن بسمل لافتتاح الصلاة بعد الاستفتاح فذلك شأن آخر.

ما الحكمة الظاهرة من هذا الاستثناء؟

  • إظهار الجِد والقطع: «براءة» تُعلن انتهاء مرحلة المهادنة مع الناكثين، وتفتح باب التوبة لمن رجع، وتُعينُ للمخالفين أجلًا معلومًا، فافتتاحها بلا بسملة يُشعر القارئ بأننا أمام بيان مفصلي في بناء الأمة.

  • ترسيخ وحدة الباب بين «الأنفال» و«براءة»، فتركُ البسملة بينهما علامة بصرية على الالتحام الموضوعي، فالقارئ يتلقَّى السورتين كفصلين من «كتاب واحد» في فقه العلاقات والقوة والعدل.

  • مقام الرَّحمة محفوظ، فترك البسملة في مطلع «براءة» لا يعني غياب الرَّحمة؛ فالسورة ملأى بدعوة التوبة: {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، و{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ}، و{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَن عِبَادِهِ}، إنما المقصود تمييز المقام: مقام حسم مع من غدر ونكث، مع فتح باب التوبة لمن رجع وأناب.

هل يجوز أن أقول «بسم الله الرحمن الرحيم» إذا بدأت قراءة «براءة»؟

الأداء الموروث عند القرَّاء لا تُبسمل في افتتاح «براءة»، بل تبدأ مباشرةً بقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، أمَّا إن بدأت القراءة من أثناء السورة، فالابتداء بالبسملة في وسط السور ليس من الأداء المعتاد، بل تفتتح من الموضع الذي تقرأ منه بلا بسملة، كما هو شأن بقية السور عند الابتداء من أثنائها.

ماذا لو انتقلتُ من «الأنفال» إلى «براءة» في مجلسٍ واحد؟

لك —كما تقدَّم— القطع أو الوصل بلا بسملة، وكلاهما صحيح، ويختار المقرئ ما يناسب تعليمًا أو ترتيلًا.

في الختام، عرفنا لماذا لم تبدأ سورة التوبة بالبسملة؟، فاقرأ «براءة» بعينين، عينٍ تحرس العهد وتعرف أن الحق له حدود لا تُنتهك، وأن للأمَّة كرامة تُصان، وعينٍ تطلب التوبة وتعلم أن الله يقبل التوبة عن عباده، وأنه رحيم ودود، وإذا فتحتَ السورة فلم ترَ «البسملة»، فتذكَّر أنَّ الرحمة ليست غائبة، ولكن المقام مقامُ بيان، وأن القرآن —في حكمته— يعلِّمنا أن العدل والرحمة جناحان لطائر واحد، وأن ترك البسملة هنا سُنَّةٌ تُتَّبع، وإشارة بليغة إلى أن الأمة إنما تمضي برحمة عادلة وقوة راشدة.

المصدر

1

زر الذهاب إلى الأعلى
Index