لماذا كان الرسول ﷺ يستعيذ عندما يرى القمر؟
حين نقرأ السنة النبوية بتمعُّن نجد أن في كل فعل للنبي ﷺ حكمة له أثرُه العملي والروحي والاجتماعي، وواحدة من هذه السنن التي قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة هي قوله ﷺ لعائشة رضي الله عنها حين أشار إلى القمر: «يا عائشةُ استعيذي باللهِ من شرِّ هذا، فإنَّ هذا هو الغاسقُ إذا وقبَ»، فهل كان المقصود القمر حقًّا؟ ولماذا الاستعاذة؟ وما الدلالةُ الفقهية والروحية لهذا التوجيه؟ سأعرض في هذا المقال إجابةً متكاملة مع استشهاد بالمصادر والتفاسير وأقوال العلماء، لأنَّ فهمَ مثل هذه السنن يزداد عمقًا حين يُربط بالنصِّ القرآني والسياق النبويِّ وجو الواقع الإنساني.
نص الحديث ومصدره وإسناده
الحديث الذي نعنيَه روته عائشة رضي الله عنها، ولفظه: «أخذ النبيُّ ﷺ بيدي فنظر إلى القمر، فقال: يا عائشةُ استعيذي بالله من شرِّ هذا، فإنَّ هذا هو الغاسق إذا وقب»؛ ورواه الترمذي في صحيحه (حديث رقم 3366) وورد أيضاً في مصادرٍ أخرى بين الإمام أحمد والنسائي وغيرهم، واعتبره بعض العلماء حسنًا أو صحيحًا.
هذا النقل النبوي مهم لأنه رُفِعَ إلى النبيِّ ﷺ وفيه توجيهٌ توضيحيّ لآيةٍ من سورة الفلق: «وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ»، لذلك ربط العلماء بين الحديث والآية في تفسير معنى «الغاسق إذا وقب».
المعنى اللغوي ل«الغاسق إذا وقب»
-
الغاسق من مواد اللغة يدل على الغَمْق والظَّلام والشيء الذي يغشى، والعرب قد تقول: «غاسق الليل» أي ليلٌ حالِك.
-
وقب بمعناه اللغوي، أي دخل وغشا أو ساد، وفي استعمال العرب يدلُّ على قدوم الشيء وغَلبته.
بناءً على ذلك أكثر أقوال المفسرين تقول إنَّ «الغاسق إذا وقب» هو وصفٌ للَّيل إذا أظلم ووطأ الناسُ ظلمتُه؛ فالسورة تأمر بالاستعاذة من شرِّ ما خلق، ثم تبيِّن خصوصًا الشرَّ المتصل بالليل وظُلْمته، وابن كثير وغيره من المفسرين فسَّروا الغاسق بالليل حين يَبْلُغُ ظلامُه.
لكن في الحديث النبوي وَضَعَ النبيّ ﷺ القمرَ أمامَ عائشةٍ حين قال: «هذا غاسق إذا وقب»، ففَهِم بعض العلماء أن المراد به هنا أنَّ القمرَ يُشارُ به إلى مفهومٍ أوسع، وهو آيةٌ من آيات الليل، أو أن العربَ تُسمِّيه «غاسقًا» عند أوقاتٍ مخصوصة، أو أن المقصود عند وقوعه (أو عند خفائه/كسوفه) قد يترتَّب عليه أحيانًا أمورٌ ضارة، لذلك حافظ العلماء على احتمالين: إمَّا أن المراد بالقصة تفسيرُ الآية (أي أن النبي ﷺ بين مقصود الآية وأن الغاسق مراد به ما يتعلق بالليل كما أشار إليه القمر)، وإمَّا أن القمر بحد ذاته يُذكِّر بما يحدث في الليل من شرور.
آراء المفسِّرِين والعلماء
عند النظر في كتب التفسير والحديث نجد اتجاهات متعددة لكنهـا جميعًا تسير إلى حكمتين رئيستين:
-
قول الجمهور (غالب المفسرين): الغاسق هو الليل إذا أقبل وظلم؛ والحديث يربط القمر بالإشارة إلى الليل ككلِّه، باعتباره علامةً عليه (ابن كثير، الطبري).
- قول طائفةٍ من أهل الأثر فسروا الغاسق بالقمر نفسه أو بنجومٍ مخصوصة أو حتى بثريا كما كانت تعتقد العرب؛ لأنَّ للعرب أسماءً وأساطيرَ قديمة في وصف النجوم والثريا، فكان لهم ألفاظ ودلالات، لكن هذا القول أُخِذ بغير تثبيتٍ مطلقٍ، وأرجحه العلماء توضيحًا لكون الحديث أتى مُضافًا إلى آيةٍ عامة.
- تصدِّي العلماء للمعنى العملي سواء فسَّروا الغاسق ليلًا أو القمرَ آية، فقد اتفقوا أن النبي ﷺ أرادَ توجيهَ الأمةِ إلى الاستعاذة بالله من شرورٍ تظهر مع ظلمة الليل أو ما يتعلق بها، وعناية النبي ﷺ كانت تربوية أن يُعلِّم أمته أن تُعَوِّذَ نفسها عند مشاهدة سببٍ يذكِّر بالخطر.
لماذا كان الرسول ﷺ يستعيذ عندما يرى القمر؟
سبب واقعي
الليل تاريخيًا كان مساحةً لِخَفْيِ الأذى كاللصوص، ومعتدين، وحيوانات مُؤذية، وظروف طارئة تُعيق الإنقاذ أو الإغاثة، لذلك كانت الاستعاذةُ بمثابة تذكيرٍ بالمحافظة واللجوء إلى الله في أوقات الضعف، والقرآن نفسه يربط الخطر بظلمة الليل في تفسير آية الفلق.
سبب طقسي ديني ولغوي
النبيّ ﷺ حين أشار إلى القمر لم يُطلَب منه أن يُدين القمرَ أو يُخافَه كما تُخافُ عدوًّا؛ بل كان يُعلِّم أنه حين ترى شيئًا يذكرك بالليل وظلامه، فاستعذ بالله، أي لا تُوَلِّد هَمًّا أو سُوءَ ظن، بل التفت إلى الذكر، وهذه سنة تربوية الاستعاذة كأول سلاح روحي حين يتسلط الخطر.
سبب روحاني ونفسي
الاستعاذة توجِّه القلبَ للثقة بالله بدلًا من الخوف المضطرب؛ فهي تدرِّب النفوس على اللجوء الفوريِّ إلى المعبود، وتمنع الوقوع في الخرافة والتلبُّس بالظنون، وبالتالي الاستعاذة عملية تطهير نفسية وتقريب القلب من ربِّه، والوقاية بالذكر.
سبب مرتبط بالسحْرِ والشرِّ الخفي
أشار بعض المفسِّرين والفقهاء إلى أن الليلَ موضعُ غضب الشياطينِ وممارسة السحَرةِ للأعمالِ الخفية؛ لذلك جاء في سورة الفلق: «وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ» بعد آية الغاسق، وهذا يدلُّ على خوف من ما يختص به الليل من أشياء خفية، فالاستعاذة بالتالي وقاية.
توضيح عقيدي مهم
الاستعاذة لا تعني شركًا أو سَحْقًا للطبيعة، ولا يجوز أبداً أن يُفهم هذا الحديثُ على أنه تبجيلٌ للقمر أو إضفاء صفات ذاتية إلهية على المخلوق، بل إن النبيُّ ﷺ يعلِّم التعامل الصحيح مع المخلوقات، والقمر مخلوقٌ جميل، والمطلوبُ أن نستعين بالله ونستعيذ منه، أي من شرِّ ما قد يحصل ضمن نظام الخلقة، لا أن نُلصق بالقمر سببية مطلقة مستقلة عن مشيئة الله، وهذا تمييزٌ عقدي جوهري.
ماذا نعمل عمليًا حين نرى القمر؟
-
الاستعاذة بقولٍ موجزٍ مثل «أعوذ بالله من شرِّ هذا» أو بالإتيان بآية الفلق: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» كذكرٍ مُغلق يحمل معاني الحماية واللجوء، والحديث نفسه لم يُحفظ لنا صيغة دعاء طويلة؛ لكن توجيه النبي كان واضحًا: استعاذي بالله من شرِّ هذا.
- التذكُّر والذكر واليقظة الروحية، فعند مشاهدة آيةٍ من آيات الله (قمر، شمس، مطر) تكون لحظةً مناسبةً للذكر والشكر والدعاء والتسلُّح بالقيم العملية (الحذر، والحيطة، وخاصةً عند الخروج ليلاً).
- تفادي الخرافة، فالعلم الحديث يعلِّمنا كثيرًا عن طبيعة الكون؛ لكن السنة النبوية تدعونا للاعتدال: نَعلمُ علاقة المخلوقات بربِّها ولا نُلصق بها صفات ربانيَّة، لذلك الاستعاذة فعلٌ من العقلِ والإيمان معًا.
ربط حديث النبي ﷺ بسورة الفلق
سورة الفلق تقدم نموذجًا تطبيقياً للتعوذ: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ *…»، والحديث النبوي يوضِّح للمؤمن كيف يَحضرُ هذا النصُّ في الموقف العملي عندما تلوح آية الليل (القمر)، فالتعويذُ مطلوب، وبذلك الربط بين النصِّين يُظهر انسجام القرآن والسنَّة في التربية الروحية والوقاية من الشرور الواقعية والباطنة.
أسئلة شائعة
أليس من غير المنطقي أن نستنجد بالله مِن القمر وهو مخلوق؟
الاستعاذة ليست اتهامًا للمخلوق بل وقايةٌ من شرورٍ تُرافق الظواهر الطبيعية (الليل، والظلام، وكسوفات، أمثال ذلك)، والاستعاذة تُرجع الأسباب كلها إلى الأسباب الإلهية وتوجِّه القلق إلى مسار الدعاء والاعتماد على الله.
هل المقصود بالحديث كسوف القمر فقط؟
لا يحدد الحديث كسوفًا؛ بل الحديث عام في الإشارة إلى ما يذكِّر بالغاسق، والكسوف له أحكامه وسننه الخاصة (وفيه صلاتان خاصتان عند الكسوف) بينما الحديث هنا توجيه للتعوذ عند مشاهدة آية الليل.
في الختام، عرفنا لماذا كان الرسول ﷺ يستعيذ عندما يرى القمر؟، ونجد أن قصَّة استعياذ النبي ﷺ عند رؤية القمر ليست تعليمًا علمانيًا عن الفلك، ولا دعوة خرافية، بل هي مدرسة تربوية عملية تُعلِّمُنا أن نقرَّ بوجود مخاطرٍ ليليةٍ واقعيةٍ ونَلتجئ إلى الله فورًا، وأن نتعامل مع المخلوقات بعين الاعتبار واليقظة، وأن لا نترك الخوف الاندفاعي يسود قلوبنا، بل نضعه في موقع الدعاء والعمل، فالسنة هنا تلتقي بالقرآن وتُعلِّمُنا كيف نردُّ الظَّواهرَ إلى مدبرها ونَجعل لذكر الله بابَ الحصانة الأول.
المصدر