تمر لحظات حزينة في حياة المسلم يسمع فيها عن وفاة قريب أو صديق أو عالم جليل، لكن المسافة أو الظروف تحول بينه وبين حضور جنازته، وفي هذه اللحظات يفتح الشرع بابًا رحيمًا يُسمى صلاة الغائب، ليؤكد أن أخوة الإيمان لا تقف عند حدود الجغرافيا، وأن الدعاء والمشاركة في أجر الجنازة ممكنة حتى من بعيد.
صلاة الغائب رسالة وفاء، وإعلان أن المسلم لا ينسى أخاه حيًّا أو ميتًا، وأن الدعاء له حق لا يسقط ببعد المسافة، وقد أرسى النبي ﷺ هذا المبدأ العظيم عندما صلى على النجاشي ملك الحبشة، الذي مات في أرض بعيدة، فقال لأصحابه: «إِنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ، فَصَلُّوا عَلَيْهِ» (رواه البخاري ومسلم).
تعريف صلاة الغائب
صلاة الغائب هي صلاة الجنازة التي تؤدى على ميت مسلم غاب جسده عن بلد المصلي، لكونه في مكان بعيد يتعذر إحضاره، أو لأنه مات في بلاد الكفار ولم يُصلَّ عليه هناك.
الأدلة على مشروعية صلاة الغائب
من السنة النبوية
عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال أن النبي ﷺ نعى النجاشي صاحب الحبشة يوم الذي مات فيه وقال: “إنَّ أخًا لَكُمْ قدْ ماتَ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عليه” (رواه البخاري ومسلم)، وذلك دليل صريح على مشروعية الصلاة على الغائب، كما أن الصحابة رضوان الله عليهم صلوا على أرواح من مات في أرض بعيدة دون أن يحضروا جنازته.
من القرآن الكريم
رغم أن القرآن لم يذكر صلاة الغائب نصًا، إلا أن عموم النصوص التي تحث على الدعاء للمؤمنين تشملها، مثل قوله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ” (سورة الحشر، الآية 10).
رأي العلماء في مشروعية صلاة الغائب
قال الإمام النووي الشافعي في المجموع (ج5، ص212): “صلاة الغائب سنة، سواء صُلي عليه في بلد موته أم لا، لما ثبت أن النبي ﷺ صلى على النجاشي مع صلاتهم عليه في أرضه”.
وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني (ج2، ص526): “إذا مات رجل مسلم ببلد ولم يُصلَّ عليه، صلى عليه المسلمون صلاة الغائب، كما صلى النبي ﷺ على النجاشي”.
وقال الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع (ج1، ص314): “إنما تُشرع صلاة الغائب إذا لم يُصلَّ عليه في مكانه، فإن صُلي عليه لم تُشرع”.
وقال الإمام مالك في المدونة الكبرى (ج1، ص262): “لا يصلي أحد على غائب، وإنما ذلك خاص بالنبي ﷺ في النجاشي”.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (ج5، ص349) أن صلاة الغائب مشروعة إذا لم يُصلَّ عليه، جمعًا بين الأدلة، وأن فعل النبي ﷺ مع النجاشي لم يكن خصوصية له، بل لعدم وجود من يصلي عليه هناك.
بذلك يتبين أن الشافعية والحنابلة يجيزون صلاة الغائب مطلقًا أو بشروط، والحنفية يجيزونها إذا لم يُصلَّ عليه، والمالكية يرونها خصوصية للنبي ﷺ.
حكم صلاة الغائب
صلاةُ الجنازة في أصلها فرض كفاية باتفاق المذاهب يقوم بها مَن يكفي فتسقط عن الباقين، وقد نصَّ على ذلك الأئمة ونقلوا عليه الإجماع، كالنَّووي في “المجموع” والفتاوى الرسمية لدار الإفتاء المصرية.
بالنسبة للحُكم بما أنَّ صلاة الغائب هي ذات صلاة الجنازة، فالأصل أنها من جنس فرض الكفاية يتعلَّق الطلب بإقامة الصلاة على الميت. فإن لم يُصلَّ عليه في موضعه تعيَّن على مَن عَلِم من المسلمين إقامةُ صلاة الغائب حتى يسقط الفرضُ بهم، وقد نصَّ فقهاء الشافعية على أنّ مَن أجازها قال: “تسقط بها فرضُ الكفاية”، واستثنَوا ابنَ القطان، كما قرَّر ابنُ حجر هذا المعنى.
تسقط صلاة الجنازة بفعل البعض، وذلك مذكور صراحة في كلام النَّووي (وفيه: يكفي واحدٌ على الأصح)، وفي فتاوى معاصرة موثوقة كدار الإفتاء المصرية، وكذلك في تقريرات فقهية وفتاوى كبار العلماء.
متى تُشرع صلاة الغائب؟
-
إذا مات مسلم في بلد بعيد ولم يُصلَّ عليه أحد (اتفاق العلماء).
-
إذا مات في بلاد غير المسلمين ولم يتيسر أداء الصلاة عليه.
-
إذا كان للميت فضل على الأمة كما فعل النبي ﷺ مع النجاشي.
-
في حالات الكوارث العامة التي يموت فيها مسلمون ولا يمكن الصلاة على كل جنازة.
كيفية أداء صلاة الغائب
النية
يُستحب أن ينوي: “أصلي على فلان صلاة الغائب”، ويكفي أن تكون النية في القلب.
القيام
صلاة الجنازة قائمة على القيام، فلا تصح من القادر على القيام إذا جلس.
الخطوات
-
التكبيرة الأولى: الفاتحة.
-
التكبيرة الثانية: الصلاة الإبراهيمية.
-
التكبيرة الثالثة: الدعاء للميت، ومنه:
“اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه…” (رواه مسلم).
-
التكبيرة الرابعة: دعاء عام للمسلمين.
-
التسليم: تسليمة واحدة أو اثنتان.