فضل آخر آيتين من سورة البقرة
في نهاية سورة البقرة، حيث تتناثر أنوار الوحي وتختتم السورة التي هي سنام القرآن وعظمته نزلت آيتان تُعدان من كنوز السماء، فهما آيتان جمعتا جوهر الدين كله: إيمانًا وتسليمًا، وعفوًا ورحمة، ودعاءً وتوبة، ونورًا وطمأنينة، حتى قال فيهما رسول الله ﷺ: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»، أي أغنتاه من كل شر وبلاء.
إن آخر آيتين من سورة البقرة ميثاق بين العبد وربه، وتربية إيمانية عميقة تُجسد معنى العبودية الخالصة؛ حيث تنطقان بلغة المؤمنين الصادقين الذين قالوا: «سمعنا وأطعنا»، ثم لجؤوا إلى رحمة الله بقولهم: «غفرانك ربنا وإليك المصير».
وحين يتأمل القلب هاتين الآيتين يشعر كأنه يتوضأ بنور من رحمة الله، ويغسل به عناء الدنيا وخوفها، ويستظل بظلال الطمأنينة الإلهية التي تفيض من قوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»، فهما خلاصة العلاقة بين الخالق والمخلوق؛ علاقة إيمان ومحبة وخضوع ورجاء.
سنكشف في هذا المقال أسرار هاتين الآيتين، ونتأمل معانيهما، ونسير مع هديهما سطرًا سطرًا، لندرك كيف جعلهما الله حصنًا حصينًا وكنزًا ثمينًا لأمة محمد ﷺ.
نص آخر آيتين من سورة البقرة
﴿ ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ﴾.
شرح معنى مفردات الآيتين
“آمَنَ الرَّسُولُ … وَالْمُؤْمِنُونَ”
إيمان الرسول والمؤمنين، والإيمان هنا لم يكن بمجرد القول فقط، بل الاعتراف العقلي، والقبول القلبي، والعمل الجوارحي؛ هكذا كان إيمان الرسول ﷺ (مع صدق الرسالة ومعاناة الدعوة)، وهكذا يُطلب من المؤمنين.
كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله هذه أركان الإيمان الخمسة المعروفة في العقيدة، والتسليم بها كلها شرط في الإسلام، ولو آمنت بالله وملائكته فقط ولم تؤمن بالكتب فلا يكمل إيمانك شرعًا.
“لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِ”
والرفض هنا للتفريق أي كان بين الرسل، بين من يُعرف منهم أو لا يُعرف، ففكرة التفريق بين الرسل قد تستعملها بعض الفرق لخفض شأن نبي ، لكن القرآن هنا ينهيها صراحةً، وهذا الجزء من الآية حصر معنى الإيمان ضمن دائرة التسليم الكامل، حتى لا يُقال: آمنت برسولٍ دون رسول، أو بكتابٍ دون آخر، فتنشأ فرقة.
“سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ”
والمقصود هنا أنه لا يكفي الإيمان النظري، بل الطاعة — والإذعان — مع الاعتراف بأن من علم الحق فمنه الواجب الاستجابة، حتى لو كان الأمر فيه مشقة، وقدم السمع على الطاعة جاء ليُبيّن أن الإدراك والمعرفة شرط للإلتزام، ثم الأثر العملي في النفوس.
“غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ”
دعاءٌ يجمع بين الدعاء بالاستغفار، والاعتراف بالمسؤولية النهائية، حيث أن الإنسان سيُرد إلى ربه، لا ملجأ إلا إليه، وكلمة المصير” تختصر مصير الحياة كلَّها؛ مصيرُ الأعمال ومصيرُ النفس ومصيرُ الجزاء، وفيها تذكرة بأن المطلوب ليس البقاء في الدنيا فقط، بل الحساب ما بعد الموت.
“لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ”
أصل فقهي وركيزة من ركائز الشريعة، فالله لا يفرض ما يستحيل، ولا يُحَمِّل عباده ما لا يطيقون؛ وهذا يفتح أبواب التخفيف، ويوجه نحو العدالة والرحمة.
وإدراك أن الناس متفاوتون في القدرة، فمن صنفهم من يتعلَّم، ومن يمرض، ومن يعجز، ومن يُبتلى — ومبناها أن الحكم يُعد بعدم القدرة لا بعدم الرغبة.
“لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ”
عندما تعمل الخير فهو لك، والشر أيضًا يتحمَّله الإنسان؛ لا تبخيس لأعمال أحد، ولا دفن للذنوب إلا بالاعتراف والاستغفار، والفقهاء يستدلُّون بهذه هذا الجزء من الآية على مبدأ الجزاء بالمقابل (جزاء حسن بالخير، وجزاء سوء بالخطأ إذا قصدته وسعيت له).
“رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ”
رغم أن المرء يريد الأتم، لكن الإنسان ضعيف — والله أوضح لنا هذا وبالتالي لا يحاسب الله عباده في ارتكاب فعل بالنسيان والخطأ، وجاءت “إصراً” لتدل على العُبودية الغير محتملة، أو تكليفًا أدَّى فيه إلى العُسر الذي لا يُطاق.
وطلب العفو والمغفرة والرحمة في الآية هي سلسلة من الدعاء تزيد من المناجاة، فتبدأ بالعفو (ترك العقاب الذي يستحقه الإنسان)، ثم المغفرة (إزالة الذنب)، ثم الرحمة التي تشمل النعم.
واختتمت الآية بالإقرار بأن الله هو الوَلِي الحقيقي، والمدبر الحي، وأن النصر منه سبحانه، لا من البشر.
آخر آيتين من سورة البقرة في الأحاديث النبوية
وردت أحاديث كثيرة صحيحة تبين عظمة هاتين الآيتين وفضلهما العظيم، منها ما رواه الإمام البخاري ومسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «مَن قرَأ الآيتينِ مِن آخِرِ سورةِ البقرةِ في ليلةٍ كفَتَاه» (رواه البخاري رقم 5009، ومسلم رقم 808).
قال العلماء في معنى “كفتاه” أي كفتاه من كل شر، أو كفتاه من قيام الليل، أو كفتاه من الآفات والشيطان، والمعنى يشمل كل ذلك، لأن فضل الله واسع.
وروى الإمام النسائي وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “بَيْنَمَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم عندَه جِبريلُ إذ سمِع نَقيضًا مِن فوقِه، فرفعَ جبريلُ بصرَه إلى السَّماءِ، فقال: هذا بابٌ فُتِح من السَّماءِ ما فُتِح قطُّ، قال: فنزل منه ملَكٌ، فأتَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلم فقال: أَبشِرْ بنورَينِ أُوتيتَهما لم يؤتَهُما نبيٌّ قبْلَك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأَ حرفًا منهما إلَّا أُعطيتَه”.
ويكشف هذا الحديث الجليل أن آخر آيتين من سورة البقرة ليستا من الوحي العادي، بل هدية سماوية فريدة، نزل بهما ملك لم ينزل قبلها، فهما نوران من خزائن السماء.
تأمل وتدبر في آخر آيتين من سورة البقرة
حين تختم سورة البقرة نجد أن هاتين الآيتين ليستا مجرد خاتمتين بل مرآة قلب المؤمن ومكيال رحمته، ففي الآية الأولى نسمع همهمة الإيمان يجهر بها الرسول وتردُّها جماعة المؤمنين، فهي إقرار شامل بالعقيدة، وقَطعٌ لطريقِ الفرقة، وإعلان بأن الحق واحد، وأن القلوب المؤمنَة تُسلم للخطاب الرباني بلا تحفُّظ أو تفريق، وما أعظم أن يكون اعتراف الطاعة قبل الدعاء: «سمعنا وأطعنا»، فتصير الطاعة ناتجًا عن سمعٍ واعٍ لا عن تقليدٍ أعمى.
ثم يأتي القلب: «غفرانك ربنا وإليك المصير»، وهاهنا تواضع العبد، ووضوح اتجاهه؛ لا تحيير بعد اليوم في الوجهة، فكل خطوة تُدار نحو المولى، وفي هذا الدعاء القصير يختزل المسلم قلقه واعترافه بقصر جهده، ويضع أمَلَه بين يدي الرحمة.
وتنتقل الآية الثانية بنا إلى ميدانِ الرحمة والعدل الإلهي: «لا يُكَلِّفُ الله نفسًا إلا وسعها»، فكم تؤنس هذه الكلماتُ النفسَ المرهقة من وطأة التكاليف، كأنها لمسة رحمة تروي عطش القلوب وتطمئن النفوس المرهقة، فالله جل جلاله لا يُثقل على عباده بما لا يطيقون، بل يراعي ضعفهم، ويعاملهم بعدله ورحمته، ويغفر زللهم، ويقبل توبتهم.
ثم يأتي ختامها كمن يناجي ربّه بدموع الخضوع “رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا… رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ…”، فهي مناجاة جامعة، فيها الاعتراف بالعجز، واللجوء إلى الله في طلب العفو والرحمة والنصر على النفس والشيطان، والدعاء هنا اعتراف بالضعف، وطلب للعفو، والرجاء في رفع الأثقال التي تفوق طاقة الإنسان، ولا ندعو هنا فقط لنزول النعم، بل نرجو أن يرفَعَ عنا إرهاق التكليف، أن يخففَ عنا ما حمل من سبقونا، وفي خاتمة الدعاء استدعاءٌ للنصرة: «أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ» — نصرةٌ تبدأ في داخل الذات قبل أن تتجلَّى في الخارج: نصرٌ على الشهوات، على الوساوس، على ما يعيق العبودية الخالصة.
فضل آخر آيتين من سورة البقرة
حرز من الشيطان والشرور
هاتان الآيتان تحفظان المؤمن من كيد الشيطان ووساوسه، فقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، لا تُقرآن في بيت ثلاث ليالٍ فيقربه شيطان» (رواه الترمذي وصححه الألباني)، فمن داوم على قراءتهما ليلاً، جعل الله له بيتًا مطمئنًا تحرسه الملائكة وتفر منه الشياطين.
تكفير الذنوب ورفع الدرجات
قال العلماء: لما اشتملت الآيتان على التوحيد والإيمان والاعتراف بالتقصير، ودعاء المغفرة والعفو، كانت سببًا في تكفير الذنوب ورفع المقامات، لأن من قرأهما بصدق صار من أهل السمع والطاعة لله، وهذه مرتبة عالية من مراتب الإيمان.
تثبيت الإيمان في القلب
هاتان الآيتان تلخصان عقيدة المسلم كلها في سطور قليلة:
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ثم التسليم لأوامر الله ورسوله، ثم اللجوء إلى الله بالدعاء والمغفرة، فمن حفظهما ووعاهما، فقد جمع جوهر الإيمان كله.
طمأنينة النفس ورفع الحرج
في قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ راحة عظيمة لكل قلب مؤمن؛ حيث يعلم أن الله لا يُحمل أحدًا بما لا يطيق، وأن كل تكليف رحمة لا مشقة، وبذلك يشعر المؤمن بعدل الله ولطفه، ويقبل أوامر الشرع برضًا وطمأنينة.
القواعد الفقهية المستنبطة من آخر آيتين من سورة البقرة
من هاتين الآيتين تستنبط عدة قواعد أساسية في الفقه الإسلامي:
-
أصلُ التكليف بالقدرة: لا يُعذب الله نفسًا ما لم يشَرِفُ عليها التكليف بناءً على الكفاءة والقدرة.
-
المسؤولية المُطلقة مع العذر الشرعي: من نسي أو أخطأ فعله، فهناك عذر شرعي، فالله سبحانه لا يمعن في العقاب لمن لا يقصد المساءلة.
-
عدم التفريق بين الأنبياء والرسل في العقيدة: بل التساوي في الاعتراف بهم جميعًا، وإقرار الرسالة كلها.
-
التوازن بين العدالة والتراحم: لا إغفال للذنب، ولا إفراط في العقوبة، بل عفو وتوسُّل الرحمة.
-
التكامل بين القول والعمل: الإيمان لا يكتمل إلا بالقول والاستماع، والطاعة، مع الاعتراف الكامل.
س: ما معنى “كفَتاهُ” بالضبط؟ هل يكفيه من كل شر؟ أم من البُعد عن الجريمة؟
ج: اختلف العلماءفي ذلك، وأكثرهم قالوا إنها تكفيه من الشرور في الليلة من الوسواس والشيطان، ورد الشيطان وأذى النفس، ومنهم من أوسع في المعنى ليشمل البراءة إذا مات بين ليلتين، لكن المهم أن الاعتقاد بالفضل موجود مع العمل، ولا يُجعل مصدرًا للكسل أو القعود عن الذِّكر.
س: هل قراءة الآيتين بغير وضوء، أو بغير خشوع، تنفع؟
ج: القراءة تنفع دائمًا إن كان القلب موجودًا ولو بدرجةٍ ما، فإن كان مع الوضوء والخشوع فذلك أفضل؛ الإسلام لا يُقيد الفضل بالاحتياج الكامل إلى الشروط، ولكن الأفضل هو استيفاءها لتعظيم المقام.
في الختام، يتجلَّى لنا فضل آخر آيتين من سورة البقرة كمنارٍ يهدي القلوب إلى طريق الطمأنينة والإيمان، ويكشف عن عظمة هذا القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، فهاتان الآيتان جمعتا أصول العقيدة وروح العبادة وجمال المناجاة في كلماتٍ معدودة، ولكنها أعمق من أن تُحيط بها العقول.
إن من تدبَّر آخر آيتين من سورة البقرة أدرك أنهما ليستا مجرد آيتين تُتلى في ختام الليل، بل هما سِترُ رحمةٍ يُظل المؤمن، ودرعُ أمان يحميه من كل خوف وشر، وفيهما الإيمان الكامل، واليقين الراسخ، والعهد بين العبد وربَّه على الطاعة والخضوع، فمن قرأهما بقلبٍ حاضر، نال الكفاية التي وعد بها رسول الله ﷺ، وسكنت روحه برحمة الله التي وسعت كل شيء.
أسأل الله العلي القدير أن يجعل هذه الآيات نورًا لك في قلبك، وقوة لك في عملك، وذخرًا لك يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، وأن ينفع بها كل من قرأ هذا المقال، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر