
شرح سورة الفلق، سورة الفلق ليست مجرد خمس آيات تُتلى على عجل في الصباح والمساء، بل هي صرخة استعاذة كُبرى، وباب عظيم من أبواب اللجوء إلى الله حين تضيق الحيل، وتتكاثر الشرور، ويتعاظم الخطر الخفي قبل الظاهر، فهذه السورة القصيرة في عدد آياتها، العميقة في معانيها، نزلت لتعلِّم الإنسان كيف يحتمي بربه من كل ما لا يراه، ومن كل ما يعجز عن دفعه بنفسه، وكأن الله جل جلاله يضع في يد عباده سلاحًا روحيًا لا يُكسر ولا يُقهر، اسمه “الاعتصام بالله”، وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يواظب على قراءة المعوذتين صباحًا ومساءً، ويتحصن بهما قبل النوم، ويمسح بهما جسده الشريف، ليُعلِّم الأمة أن الخطر لا يُواجَه بالقوة فقط، بل بالتوكل أولًا.
سبب نزول سورة الفلق
ذكر المفسرون وعلى رأسهم ابن كثير والقرطبي أن النبي ﷺ سُحر من قِبَل لبيد بن الأعصم اليهودي، فاشتد عليه المرض، فأُنزِل عليه جبريل عليه السلام بهذه السورة وسورة الناس، فكان كل آية تُقرأ تُفكّ عقدة من السحر، حتى قام النبي ﷺ كأنما أُنشط من عقال، ويدل ذلك على:
-
أن السحر حقيقة.
-
وأنه يؤثر بإذن الله.
-
وأن العلاج الأعظم منه هو القرآن.
نص سورة الفلق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ* مِن شَرِّ مَا خَلَقَ* وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ* وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلْعُقَدِ* وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾.
شرح سورة الفلق
حين يقول الله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ فهو لا يطلب مجرد ترديد لفظ، بل يطلب موقفًا قلبيًا كاملًا، يطلب هجرةً من الخوف إلى الأمان، ومن الضعف إلى الاعتماد على القوي، ومن القلق إلى الطمأنينة. فـ”أَعُوذُ” في لغة العرب ليست كلمةً عابرة، بل فعل هروب من الخطر إلى من يملك النجاة، وأما “رَبِّ الْفَلَقِ” فالفلق هو الصبح عند جمهور المفسرين، وهو شق الظلام بالنور، وكأن المؤمن يقول: ألوذ بمن يُخرج الضياء من رحم الظلمة، وبمن يجعل بعد الليل فجرًا، وبعد الضيق فرجًا، وبعد الخوف أمانًا، وابن عباس رضي الله عنهما قال: “الفلق هو فلق الصبح”، وقال الطبري: “هو كل ما انفلق وظهر”، وكلا القولين يصبان في معنى عظيم، وهو أن الله رب الانكشاف بعد الشدة، والنور بعد العتمة.
ثم يقول تعالى: ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾، وهي آية لو تدبرها الإنسان حق التدبُّر لكفته شرور العالم كلها مهما تنوَّعت، فهي استعاذة شاملة عامة يدخل فيها كل شر مادي ومعنوي وكل شر ظاهر وخفي وكل شر من الإنس والجن ومن المرض والفقر والخوف والفتن والشهوات والوساوس ولم يخص الله شرًا دون شر، لأن الشر قد يأتيك من حيث لا تحتسب، وقد يخرج من موضع ظننت أنه آمن، ومع ذلك فإن الآية لا تتهم الخلق في أصلهم، بل تشير إلى الشر الذي يَصدر عنهم، لأن الخلق في ذاته قائم على الحكمة، وإنما الشر يكون في الأفعال والمآلات.
ثم تأتي الآية الثالثة كأنها تنتقل بنا إلى ميدان آخر من ميادين الخطر الخفي، حين يقول الله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾، فالغاسق هو الليل إذا اشتد ظلامه، أو كل ما يغشى الإنسان في لحظات الوحشة والرهبة، و”إِذَا وَقَبَ” أي إذا دخل بظلامه واختلط بالأنفاس والقلوب، وهذه الآية ليست وصفًا لظاهرة كونية فحسب، بل تصوير لحالة نفسية أيضًا، لأن الشرور كثيرًا ما تنشط في الظلام (السحر، والخوف، والجرائم، والوساوس، والأفكار السوداء، والقلق الذي يهاجم الإنسان حين يسكن العالم من حوله)، ولذلك كان الليل وقتًا عظيمًا للعبادة، ووقتًا عظيمًا للاستعاذة أيضًا.
ثم تبلغ السورة ذروة التحذير من أخطر أنواع الشرور حين يقول الله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾، وهي آية صريحة في إثبات حقيقة السحر وخطره، وأنه ليس خرافة ولا وهمًا نفسيًا فقط، بل حقيقة اعترف بها القرآن، ووقع بسببها الأذى حتى على خير البشر ﷺ، ثم أنجاه الله بها، والنفاثات هن الساحرات اللاتي ينفخن في عقد الخيوط مع التعاويذ الشيطانية، طلبًا لإفساد القلوب، وتفريق الأزواج، وإسقاط الصحة، وتعطيل الأرزاق، والسورة هنا لا تفتح باب الهوس بالسحر، لكنها تغلق باب إنكاره المفرط، وتضع العلاج في موضعه الصحيح: الاحتماء بالله لا بمشعوذ ولا بدجَّال.
ثم تختم السورة بأخطر شر اجتماعي على الإطلاق، حين يقول الله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾. والحسد ليس مجرد إحساس داخلي، بل نار قلبية إذا اشتعلت أحرقت صاحبها قبل غيره، وإذا خرجت إلى الفعل صارت طعنًا في الأقدار، واعتراضًا على عطاء الله، وسعيًا في هدم النعم لا في بنائها، ولم يقل الله “ومن شر الحسد” فقط، بل قيَّده بالفعل: “إذا حسد”، لأن الخطر الحقيقي يبدأ حين يتحوَّل الشعور إلى سلوك، والنية إلى أذى، والدعاء الصامت إلى كيد ظاهر، والحسد هو أول معصية عصي الله بها في السماء حين حسد إبليس آدم، وهو أول جريمة قتل في الأرض حين قتل قابيل هابيل، وهو ما يزال إلى اليوم سببًا في خراب البيوت، وقطع الأرحام، وإشعال العداوات.
وقد أجمع المفسرون، كابن كثير والقرطبي والطبري، على أن سورة الفلق قد جمعت أصول الشرور كلها: شر عام، وشر زماني (الليل)، وشر خفي (السحر)، وشر نفسي اجتماعي (الحسد)، وكأنها رسمت خريطة كاملة للمخاطر التي تحيط بالإنسان في حياته، ثم علَّمته أن طريق النجاة واحد لا يتعدد: أن تعتصم برب الفلق.
وفي السنة النبوية دلائل عظيمة على فضل هذه السورة؛ فقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي ﷺ كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما وقرأ الإخلاص والفلق والناس، ومسح بهما جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات، وعن عن عقبة بن عامر قال: “بينما أنا أسيرُ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بينَ الجَحفَةِ والأبواءِ إذ غشِيتنا ريحٌ وظُلمةٌ شديدةٌ فجعلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يتعوَّذُ ب{ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و{ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ويقولُ يا عقبةُ تعوَّذْ بهما فما تعوَّذَ متعوِّذٌ بمثلِهما قالَ وسمعتُهُ يؤمُّنا بهما في الصَّلاةِ”، أي لا يوجد حصن أعظم ولا وقاية أصدق من هاتين السورتين، وهذا يدل على أن سورة الفلق ليست ذكرًا عاديًا، بل درعًا إيمانيًا حقيقيًا.
ولو تأملنا أثر سورة الفلق في النفس البشرية اليوم لوجدنا أنها تعالج أعمق أشكال القلق المعاصر: “الخوف من المجهول، الرعب الليلي، الوساوس، الشعور بالتهديد غير المرئي، الضغط النفسي الناتج عن الحسد والمقارنات والعداوات”، فهي لا تطمئن الجسد فقط، بل تطمئن الروح والفكر والوجدان.
وسر قوة سورة الفلق ليس في ألفاظها فقط، بل في صدق اللجوء بها، فكم من إنسان يرددها وقلبه مشغول، فلا يجد أثرها كاملًا، وكم من ضعيف لا يملك من الدنيا شيئًا لكنها تجري من قلبه بصدق، فينام آمنًا مطمئنًا كأنه في حراسة السماء.
إن تطبيق سورة الفلق في الحياة لا يكون بالحفظ فقط، بل بالملازمة، وباليقين، وبربطها بالسلوك اليومي: تُقرأ على الأبناء، وتُقرأ عند المرض، وتُقرأ عند الحسد، وتُقرأ عند الخوف، وتُقرأ عند النوم، وتُقرأ حين تضيق الصدور، فهي ليست سورة تُقرأ فقط، بل سور يُسكن في القلب.
الفرق بين الاستعاذة الحقيقية واللفظية
الاستعاذة الحقيقية تحتاج إلى يقين وإخلاص وطهارة قلب واستقامة جوارح، أما مجرد الترديد دون قلب، فلا يثمر أثره كاملًا.
وفي ختام شرح سورة الفلق ندرك يقينًا أن هذه السورة الصغيرة في عدد آياتها، العظيمة في معانيها، هي حصن إيماني متكامل، ورسالة ربانية لكل قلب خائف، وكل نفس مُثقلة، وكل روح أرهقها شر الناس أو وساوس الليل أو آلام الحسد، وشرح سورة الفلق ليس علمًا يُحفظ فحسب، بل نورٌ يُعاش، وأمانٌ يُستحضر، وملجأٌ لا يخيب من طرق بابه بصدق، فمن جعل سورة الفلق وِردًا دائمًا له، وقرأها بيقين لا بعادة، عاش في كنف الله، وسكن في حفظه، وسار في حياته مطمئنًّا لا تهزه شرور الأرض ولا تخيفه ظلمات الطريق.
المصدر













