شرح حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)… الأربعين النووية 11
تعرف على أسرار حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، يحتاج المسلم في عالم تكثر فيه الشبهات وتتزاحم فيه الآراء إلى قاعدة راسخة ترشده في دروب الحياة المتشعبة، وقد جاءت السنة النبوية الشريفة لتضع لنا هذه القواعد بأسلوب بليغ يجمع بين الإيجاز والعمق، ومن أبرز هذه القواعد حديث النبي ﷺ: “دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك”، وهو الحديث الحادي عشر من الأربعين النووية حديثٌ عظيم تُبنى عليه فتاوى، وتُقاس به الأحكام، وهو أصل من أصول الفقه والتقوى، وسند راسخ لمن أراد النجاة في الدنيا والآخرة.
سنتعرف في هذا المقال على حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، ونكشف عن كنوزه ومعانيه، ونُفصِّل في شرحه شرحًا فقهيًا، ونُبين أثره العظيم في حياة المسلم، وكيفية تطبيقه عمليًا في مختلف المجالات.
متن حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وإسناده
روى الترمذي والنسائي والإمام أحمد وغيرهم عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: أن النبي ﷺ قال: “دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة”
رواه الترمذي (2518) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي (5711)، وأحمد (17208).
ويُعد هذا الحديث من الأحاديث الجوامع، وقد صححه الإمام النووي في “الأربعين النووية”، وأورده في الحديث رقم (11) في مجموعته المباركة، وهو من رواية أحد شباب أهل البيت الأطهار، الحسن بن علي، ريحانة رسول الله ﷺ، مما يزيد الحديث طيبًا ونورًا.
المفردات اللغوية للحديث
“دع”: أي اترك وتجنَّب.
“ما يريبك”: أي ما يُدخلك في الريبة والشك، ويثير في قلبك التردد.
“إلى ما لا يريبك”: أي إلى ما لا شك فيه، بل فيه وضوح وطمأنينة ويقين.
“الصدق طمأنينة”: أي أن الصدق يُحدث في النفس استقرارًا وسكينة.
“الكذب ريبة”: أي الكذب يولّد في النفس قلقًا واضطرابًا وشكًا دائمًا.
شرح حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
يضع حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) قاعدة عامة في سلوك المسلم، وهي التحرز من الوقوع في الشبهات، وتفضيل ما هو واضح وجلي من الأحكام والسلوكيات، فالإنسان لا ينبغي له أن يخوض في الأمور المشكوك فيها، بل يلزمه أن يسلك طريق الوضوح واليقين.
قال الإمام النووي رحمه الله: “هذا الحديث قاعدة عظيمة في الورع، وترك الشبهات، واتباع اليقين، وقد أجمع العلماء على أن الورع طريق النجاة، وأن ترك ما يريب من علامات صدق الإيمان”.
والريبة هي ما يقع في القلب من الشك والقلق والخوف من عدم رضا الله عز وجل، أما الطمأنينة فهي الاستقرار النفسي والرضا بأن ما تفعله موافق للشرع.
فالحديث يربط بين الصدق والطمأنينة، وبين الكذب والريبة، فإذا وجدت في قلبك اضطرابًا عند فعل أمر معين، فاعلم أنه لا خير فيه، حتى وإن لم يظهر لك وجه الحرام فيه.
القواعد الفقهية المستنبطة من حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
“اليقين لا يزول بالشك”
وهي من أعمدة أصول الفقه الإسلامي، وتستخدم في أبواب الطهارة والعبادات والمعاملات وسائر أبواب الفقه، بل هي قاعدة في السلوك والتقوى.
مثال: إن شككتَ في عدد ركعات الصلاة، هل صليت ثلاثًا أم أربعًا؟ فابنِ على اليقين، وهو الأقل، وإن شككتَ في طهارتك بعد الوضوء، فالأصل أنك متوضئ حتى تتحقق من الحدث.
وعند الشك في صحة عقد أو مصدر مال، يجب تركه إلى ما لا يريب من المال الحلال والموثوق، فذلك يعزز مبادئ التجارة النظيفة والابتعاد عن الربا أو الغش.
وعلى المسلم أن يتحرى الأخبار والأنباء، وأن لا يصدق كل ما يشاع، كما عليه ترك كل ما يثير الشك في الناس، فلا يدخل في قصص وشبهات تؤدي إلى الفتنة.
“الضرر يزال”
فكل ما فيه ريبة هو مظنِّة ضرر، إما في الدين أو الدنيا، والحديث يدعو لإزالته بتركه.
“درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”
فحتى لو كان في الأمر المشكوك منفعة محتملة، فإن المفسدة الغالبة المترتبة على الريبة تُقدَّم في الميزان الشرعي، فنتركه.
الحديث في ضوء المقاصد الشرعية
عند تأمل هذا الحديث العظيم نجد أنه ينسجم انسجامًا تامًا مع مقاصد الشريعة الخمسة الكبرى حفظ الدين، النفس، العقل، العرض، والمال.
حفظ الدين
الشك والريبة بابان إلى التهاون في الواجبات، وربما الوقوع في المحرمات، وترك المندوبات، بدعوى عدم اليقين، فيفتح الشيطان بذلك أبوابًا من التهاون، فيأتي هذا الحديث حاسمًا: إن شككت في أمر، فاتركه، والتزم بما هو واضح يقيني، وبهذا تُحفظ التقوى ويُحفظ الدين.
حفظ النفس والعقل
كثير من القرارات المشبوهة التي لا يطمئن لها القلب قد تؤدي إلى هلاك النفس أو اضطراب العقل، سواء في المعاملات المالية أو في العلاقات الاجتماعية، فتطبيق هذا الحديث حماية من ذلك، وسلامة في الدين والدنيا.
حفظ العرض
كم من تصرف أو كلام غامض يُسقط الهيبة، أو يُشاع منه سوء الظن، أو يُفهم منه ما لا يُقصد، فالدعوة لترك الريبة تحفظ للإنسان عرضه، وتحمي سمعته.
مكانة حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) في التربية الإيمانية
حديث “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك” منهج حياة وميزان ضمير، ومقياس دقيق للتقوى، وهو أدق من أن يُحكم بالعقل وحده، بل يُرجع فيه إلى القلب المؤمن الحي، الذي يستشعر رضى الله ومحبته.
فالنبي ﷺ لم يُحِل الناس في هذا الحديث إلى ظاهر الأحكام فقط، بل إلى نبض قلوبهم وإحساسهم الداخلي، حيث جعل الطمأنينة والريبة هما الميزان، وقال ﷺ في حديث آخر: “استَفْتِ قلبَك ، البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفسُ ، واطمأنَّ إليه القلبُ ، والإثمُ ما حاك في القلبِ ، وتردَّد في الصدرِ وإن أفتاك الناسُ وأفتَوْك” (رواه الإمام أحمد والدارمي وغيرهما بسند حسن)
فمن علامات المؤمن، أن يجد في قلبه حرجًا إذا اقترب من الشبهات، وأن يرتاح إلى ما كان حلالًا بيِّنًا.
أقوال العلماء حول الحديث
- قال الإمام الخطابي: “الحديث أصل في الباب، يدل على أن ما حاك في الصدر من الشبهات، فتركه أولى، وإن لم يكن حرامًا بيِّنًا”.
- وقال ابن رجب: “هذا الحديث من جوامع الكلم، وهو قاعدة عظيمة من قواعد الدين، ولا سيما في باب الورع”.
- وقال الإمام الشوكاني: “الحديث يدل على أن المعيار في بعض الأمور يكون باطن النفس، فمتى حصل القلق والاضطراب، فذلك دليل على أن الأمر غير مستقيم”.
-
أما قول ابن القيم رحمه الله: “هذا الحديث نص على قاعدة عظيمة، أن الصدق من أعظم أسباب الطمأنينة، وأن الكذب ينشئ في النفس الريبة والاضطراب”.
-
الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه: “الحديث عام يشمل جميع الأحوال، وأن المؤمن في كل شيء يحرص على ترك الشبهات، لأنه لا يريد أن يقع في الحرام”.
-
الشيخ الألباني رحمه الله صحح الحديث وقال:”هذا حديث حسن صحيح، وهو من الأحاديث التي ينبغي أن تعلَّم وتُعمل في واقعنا”.
الدروس المستفادة من حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
- يؤسس هذا الحديث لمنهج الورع، وهو أعلى مراتب التقوى، حيث لا يكتفي المسلم باجتناب الحرام، بل يبتعد أيضًا عن المشتبهات، خشية الوقوع في الخطأ، كما قال النبي ﷺ في حديث آخر: «فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه» (رواه البخاري ومسلم)، فالورع سلوك قلبي ينبع من صدق الإيمان، وتوقير الله سبحانه وتعالى.
- الصدق في القول والعمل يُورث في النفس راحة وسكينة، أما الكذب والشبهات فيورثان القلق والاضطراب، والطمأنينة علامة على أن العمل مشروع ومرضي عند الله، والقلق علامة على وجود خلل أو نقص في العمل أو في النية.
-
يعلمنا النبي ﷺ أن للمؤمن بصيرة قلبية، تميِّز بين الحق والباطل، حتى وإن لم يملك الدليل الظاهري، والنبي ﷺ قال: «استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك» (رواه أحمد والدارمي)، لكن هذا خاص بالقلب الحي الصادق، لا القلب المتبع للهوى، فالمؤمن حين يشك، يترك ما يُقلقه، ويتبع ما يطمئن له ضميره.
-
يعلمنا الحديث أن الإنسان السليم في دينه وعقله، لا يغامر بما قد يُوقعه في الإثم، فليس من الحكمة أن يُجرب الإنسان ما يُريب، فإن السلامة لا يعدلها شيء، والاحتياط أولى، كما قال الشافعي: “من استبان له الحق فاتباعه فرض، ومن شك في أمر، فالاحتياط دينه”.
-
يدفع الحديث المسلم إلى الصدق، لا في الكلام فقط، بل في السلوك، النية، والقرارات؛ لذلك قال النبي ﷺ: «عليكم بالصِّدقِ فإنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البرِّ وإنَّ البرَّ يَهدي إلى الجنَّةِ» (رواه البخاري ومسلم)، فالصدق يجلب الطمأنينة ويقود إلى رضوان الله.
- في زمان كثرت فيه الفتن والشبهات يُصبح الحديث قاعدة ذهبية، فإذا أشكل عليك أمر في المعاملة، أو الخبر، أو العلاقات، فاتركه، واذهب إلى ما تطمئن إليه نفسك، وذلك يُعد من النجاة في الدنيا والدين.
-
يشير الحديث إلى أن المؤمن الحقيقي يضطرب قلبه عند الريبة، ولا يرتاح حتى يزول الشك،ولذلك قال الإمام النووي: “هذا الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وهو معيار للقلب المستقيم، الذي لا يقبل إلا الطمأنينة”.
أهمية حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
-
يحفظ من الانزلاق بالسلوك، لأن الشبهة بوابة للحرام.
-
يزيد من طمأنينة القلب، فالصدق يُريح النفس.
-
يبعد عن الفتنة الرقمية والمعرفية في زمن المعلومات المتضاربة.
-
يبني شخصية منسجمة لا تتحرك إلا من قناعة.
كيف نطبق الحديث في زمن الفتن والشبهات؟
في عصرنا الحالي، حيث كثرت الفتن وتعددت الآراء، وأصبح الحرام يُزين، والشبهة تُشرَّع، فإن الحاجة لهذا الحديث أشد من أي وقت مضى، ومن تطبيقاته المعاصرة:
-
تجنب نشر أو تداول ما لا تثق بمصدره على وسائل التواصل الإجتماعي.
-
لا تستثمر في مجال تشك في حِلّيته، حتى وإن كثر الربح.
-
لا تدخل علاقة تريبك نواياها، واطمئن إلى ما لا يخالف دينك.
-
لا تأخذ بكل فتوى تجدها، بل استفتِ قلبك، واطلب الفتوى من العلماء الموثوقين.
في الختام، حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) قاعدة عظيمة في حياة المسلم تهديه إلى الطمأنينة، وتجنِّبه مواطن الشك والريبة، وفيه دعوة للصدق، وتحذير من الشبهات، وتربية للقلب على الورع والتقوى، ومن عمل به نجا، وسَلِمَ دينه وعرضه، ورضي الله عنه وأرضاه، فاجعل هذا الحديث نور طريقك، تُفلِح في الدنيا وتفوز بالآخرة.
المصدر