
سجود السهو هو جابرُ نقص الصلاة، ودواءُ الغفلة حين يتسلل الشيطان لعقل المصلي فينسيه ما أقبل من أجله، وما من عبد يقف بين يدي الله سبحانه إلا وتخطر له هواجس، أو يشتبه عليه عدد الركعات، فيقع في زيادة أو نقص لا يقصده، فجاءت رحمة الله بعباده أن شرع لهم سجود السهو؛ صيانةً لصلاتهم، وإتمامًا لخشوعهم، وإكرامًا لطاعتهم أن تُرد ناقصة أو يشوبها الخلل.
إنه سجود يسير في فعله، وعظيم في أثره يجبر الخلل، ويرفع الدرجات، ويذكِّر العبد دائمًا بأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وأن رحمته وسعت كل شيء، وقد ثبتت أحكامه عن سيدنا رسول الله ﷺ في أحاديث صحيحة بيَّنت متى يكون قبل السلام ومتى يكون بعده، وما يُقال فيه، وكيف يتعامل المصلي مع الزيادة أو النقصان أو الشك.
ما هو سجود السهو؟
سجود السهو هو سجدتان يؤديهما المصلِّي في آخر صلاته لجبر خلل غير مقصود فيها سواء كان ذلك الخلل نسيانًا أو زيادة أو نقصًا أو شكًا، فهو تشريع سماوي يرفع عن العبد الحرج، لأن الخطأ طبع في البشرية، والله غفورٌ رحيم.
مشروعية سجود السهو مع الأدلة
ثَبَتَ تشريعه من سنة النبي ﷺ التي اعتمدت عليها الأمة كلها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم احدى صلاتي العشي، فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام الى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين اصابعه، ووضع خده الايمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السراعان من ابواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة؟ وفي القوم ابو بكر وعمر، فهابا ان يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، قال: يا رسول الله، انسيت ام قصرت الصلاة؟ قال: لم انس ولم تقصر، فقال: اكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده او اطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده او اطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت ان عمران بن حصين قال: ثم سلم» (رواه البخاري ومسلم).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» (صحيح مسلم)
كما أجمع العلماء على مشروعية سجود اليسهو في حق كل مسلم.
متى يشرع سجود السهو؟
هناك أربع حالات لسجود السهو، وهي كالآتي:
1- حالة الزيادة في الصلاة
قد يحدث أن يزيد المصلي ركعة أو سجدة أو قيامًا أو قعودًا دون قصد مثل من يصلي الظهر خمس ركعات بدلًا من أربع، ففي هذه الحالة يكون قد وقع في زيادة غير مقصودة، فيجب عليه سجود السهو؛ جبرًا لما زاد واتباعًا لهدي النبي ﷺ.
2- حالة النقصان (ترك واجب سهواً)
ومن أكثر ما يقع فيه الناس نسيان التشهد الأوسط في الصلاة، أو ترك واجب من واجباتها نسيانًا، وهنا يجب سجود السهو لتعويض هذا النقص، تنفيذًا لما شرعه الله عز وجل رحمة بعباده.
3- حالة الشك في عدد الركعات
كأن يشك المصلي قائلاً: هل صليت ثلاثًا أم أربعًا؟ وهنا جاء التوجيه النبوي الحكيم بأن يبني على الأقل لأنه المتيقن، ثم يسجد للسهو ليطمئن قلبه وتصح صلاته.
4- حالة النسيان العام للسنن
قد يترك المصلي سنة مؤكدة في الصلاة دون قصد؛ فهذه لا تبطل الصلاة بتركها، لكن يُسن للمصلي أن يسجد للسهو لتحصيل الكمال في عبادته ونيل الأجر الكامل بإذن الله.
* قاعدة عامة كل خطأ غير متعمد في الصلاة يجبره سجود السهو.
ماذا يقال في سجود السهو؟
لا يوجد ذكر خاص واجب في سجود السهو، بل يُقال ما يُقال في السجود العادي:
-
سُبحان ربي الأعلى
-
اللهم اغفر لي ذنبي كله
-
يا رب لا تجعل في صلاتي خللًا ولا نقصًا
ويمكن الدعاء بما أحببتِ من خيري الدنيا والآخرة، فهو موطن قرب.
كيفية سجود السهو عمليًا
عند حدوث السهو، تُكمل الصلاة بشكل طبيعي، وفي النهاية إن كان السهو بسبب نقص، فسجود السهو يكون قبل السلام، وإن كان السهو بسبب زيادة، فيكون سجود بعد السلام، وتؤدي سجدتين كسجود الصلاة، ثم تَسلِّم، فسجود السهو يعالج الخطأ ولا يقطع هيئة الصلاة.
سجود السهو عند المذاهب الأربعة
لقد أولى فقهاء الأمة اهتمامًا بالغًا بأحكام سجود السهو نظرًا لكثرة وقوع السهو في الصلاة، فجاءت مذاهبهم موضِّحة ومتكاملة، وتستند إلى الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ﷺ، وتُعين المسلم على أداء عبادته دون اضطراب أو حرج، وفيما يلي خلاصة ما قرره أئمة المذاهب الأربعة في هذه المسألة:
1️⃣ مذهب الحنفية
يرى الحنفية أن سجود السهو واجب إذا ترك المصلي واجبًا من واجبات الصلاة سهوًا، أو أحدث في صلاته زيادة فعلية لا تبطل الصلاة، ويكون سجود السهو عندهم بعد السلام على اليمين مباشرة، ثم يسجد سجدتين، ثم يسلِّم مرة أخرى.
وقد استدلوا بحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين» (رواه البخاري ومسلم).
2️⃣ مذهب المالكية
يرى المالكية أن سجود السهو ينقسم عندهم إلى قسمين: سجود السهو قبل السلام إذا كان النقصان في الصلاة، وسجود السهو بعد السلام إذا كانت الزيادة في الصلاة، وقد يكون قبله وبعده إذا اجتمع النقص والزيادة معًا، ويعدونه سنة مؤكدة، ولا يتركونه إلا لعذر، لأنه جابر للنقص.
واستندوا إلى حديث عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «مَن شَكَّ في صلاتِهِ ، فليسجُد سَجدتينِ بعدَ ما يسلِّمُ وَهوَ جالسٌ» (رواه مسلم).
3️⃣ مذهب الشافعية
يرى الشافعية أن سجود السهو سُنَّة مؤكدة في حال الزيادة أو النقص أو الشك، ويجوز فعله قبل السلام أو بعده بحسب الموضع، فيكون قبل السلام إذا كان السهو لنقصان، ويكون بعد السلام إذا كان السهو لزيادة
واستدلوا بحديث عمران بن حصين في قصة ذي اليدين، أن النبي ﷺ قال: «صلى ما بقي من صلاته ثم سجد سجدتين بعد التسليم» (رواه البخاري ومسلم).
4️⃣ مذهب الحنابلة
عند الحنابلة سجود السهو واجب لكل نقص أو زيادة في الصلاة دون تعمد، ويكون قبل السلام إذا كان سبب السهو نقصًا، وبعد السلام إذا كان سبب السهو زيادة، فقد جمعوا بين الأحاديث وجعلوا لكل حالة موضعها، وهذا قول قوي يجمع الأدلة، وقد احتجوا بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» (رواه مسلم).
🔹 رغم اختلاف المواضع والهيئات بين المذاهب، فإنها اتَّفقت على أمر مهم أن سجود السهو مشروع ومطلوب شرعًا جبرًا لنقص العبادة وتمامًا لها، وهو من رحمة الله بعباده، وهذا الاختلاف إنما هو اختلاف تنوع رحيم يفتح للمسلم باب السعة في دين الله، وييسِّر عليه العمل بما يتعلَّمه أو يتقنه في صلاته دون مشقة أو اضطراب.
لو نسي سجود السهو نفسه… ماذا يفعل المصلي؟
قد يحدث أن يسهـو المصلي مرة أخرى بعد السلام، فينسى هو نفسه أن يسجد سجود السهو الذي شُرِع لجبر نقص صلاته، وهنا يظهر فضل هذا الدين وسعته ورحمته؛ لأن الشريعة لا تُكلِّف العبد فوق طاقته، فإن تذكَّر المصلي سجود السهو بعد السلام بفترة يسيرة لم يطل فيها الفصل، وكان لا يزال في مكان صلاته أو في حكمها، فإنه يسجد سجدتي السهو مباشرة ثم يسلِّم سواء كان سبب السهو زيادة أو نقصًا، اتباعًا لفعله ﷺ في حديث ذي اليدين.
أما إذا طال الفصل، أو تحوَّل المصلي عن مكانه، أو اشتغل بعمل آخر طويل، كالكلام في أمور الدنيا أو الخروج من المسجد، ففي هذه الحالة يسقط عنه سجود السهو ولا شيء عليه، وصلاته صحيحة بإذن الله.
والقاعدة الجامعة في ذلك: “ما كان من الواجبات إذا نُسي ثم طال الفصل عنه، سقط حكمه رحمة من الله بعباده”، وهذا من جمال هذا الدين؛ فالسهو أمر جبلي يقع فيه كل إنسان، فجعل الله جبره ميسورًا، ولم يجعل فيه عنتًا ولا حرجًا، بل قال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
حكم سجود السهو للمأموم
من رحمة الله بعباده أن جعل الإمام ضامنًا لصلاة من خلفه، ولذلك فإن المأموم يتابع إمامه في سجود السهو مطلقًا، سواء كان سبب السهو من الإمام نفسه أو حتى من المأموم، لأن النبي ﷺ قال: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به» (متفق عليه).
فإن سها الإمام في صلاته بزيادة أو نقص أو شك، ثم سجد للسهو في آخر الصلاة يجب على المأموم أن يتبعه في السجود، سواء كان قبل السلام أو بعده.
أما إذا سها المأموم وحده دون الإمام، فلا يسجد للسهو مع الإمام أثناء الصلاة، ولا بعد السلام كذلك، لأن الإمام يتحمل عنه ما وقع منه وهو خلفه.
وهذا يشمل مثلًا نسيان المأموم للتشهد الأوسط بينما الإمام أتى به، أو تركه لذكر مشروع في الركوع أو السجود
وغير ذلك من السنن والواجبات التي يغطيها الاقتداء بالإمام، لكن استثنى الفقهاء حالة مهمة جدًا:
إذا سها المأموم سهوًا لا يتحمله الإمام، مثل أن يزيد المأموم ركعة بعد سلام الإمام ظانًا أن صلاته لم تتم، ثم يتبيَّن له أنه أخطأ، فهنا يجب عليه سجود السهو لنفسه لأنه لم يعد في حكم الاقتداء.
وهذه الأحكام جاءت تحقيقًا لمعنى الجماعة وتيسيرًا للناس، حتى لا تتعدد الأحوال داخل الصلاة الواحدة، فيضطرب المصلون ويكثر التشويش.
حكم من يكثر منه سجود السهو بسبب الوسوسة
هناك من يبتليه الله بكثرة الوسوسة في صلاته، فيظن دائمًا أنه نسي أو زاد أو شك، حتى يصبح سجود السهو رفيقًا في معظم صلواته، وهذا باب لو فُتح للشيطان لأفسد على العبد خشوعه وأفسد عليه صلاته كلها، ولذلك جاءت الشريعة بحكمة رحيمة في هذه الحالة:
إذا كان الشك يتكرر كثيرًا عند المصلي حتى صار وسواسًا ثابتًا لا ينقطع يُعرض عن الشك ولا يلتفت إليه، ولا يُشرع له سجود السهو في كل مرة؛ لأن النبي ﷺ قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين» (متفق عليه)، وهذا الحديث محمول عند العلماء على من غلب على ظنه أنه أخطأ فعلًا وليس مجرد وسواس.
وقد قرر الفقهاء قاعدة عظيمة في هذا الباب: “الوسواس لا يُعتد به شرعًا ولا يُبنى عليه حكم”؛ لأن الشك الدائم ليس شكًا حقيقيًا بل عبث شيطاني، ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله: «الوسواس لا يلتفت إليه باتفاق العلماء» (المجموع شرح المهذب)، وذلك ليبقى المؤمن مطمئن القلب في عبادته، لا يتشتت ولا يكثر سجوده بلا سبب، لأن كثرة الالتفات للسهو تُضعف الخشوع وتُشغل النفس، وقد تؤدي إلى النفور من الصلاة بدل حبها.
كيف يُعامل الموسوَس عمليًا؟
يبني دائمًا على الأصل اليقيني بأن الصلاة صحيحة ولا نقص فيها، ولا يعيد الأركان ولا يزيد ركعات بسبب الأوهام، كما لا يسجد سجود السهو إلا إذا تيقن يقينًا جازمًا بوقوع السهو، والهدف هو قطع الطريق أمام الوسواس، وإغلاق باب الشيطان الذي يريد أن يحزن الذين آمنوا.
في الختام، يبقى سجود السهو من أعظم دلائل رحمة الله بعباده؛ فهو الذي يجبر النقص، ويصحح ما قد يقع فيه المصلي من سهو أو نسيان وهو واقف بين يدي الرحمن، ويقال فيه من الدعاء ما يليق بالمقام؛ تبدأه بالتكبير وتشرع في السجود خاشعًا متذللًا، تسأل الله أن يتقبل منك، وأن يغفر لك سهوك وجهلك ونقصك.
إن السهو لا ينقص من قدر الصلاة إذا تداركناه بما شرعه الله، بل يزيد العبد تواضعًا وإقبالًا على ربه، فلتطمئن القلوب، ولينشرح الصدر؛ فديننا دين اليسر، وما شُرع سجود السهو إلا ليبقى خشوع المؤمن كاملًا، وصلاته تامة بإذن الله تعالى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر