
حكم العملات الرقمية وتداول الفوركس، في عالم تتسارع فيه التغيُّرات الاقتصادية، وتتبدَّل فيه صور المال من الورق إلى الأرقام المشفَّرة يظهر سؤال عظيم يشغل بال المسلمين في كل مكان ألا وهو ما حكم العملات الرقمية وتداول الفوركس في الإسلام؟
سؤال لم يَعُد حكرًا على المختصِّين في الاقتصاد، بل صار يتردَّد في المجالس، وعلى ألسنة الشباب والباحثين عن الرزق، حيث يرون الأموال تتداول بلمسة على شاشة، فيغريهم الربح السريع وتقلقهم الحرمة الشرعية.
ولأن الإسلام لا يغيب عن واقع الناس، بل يُوجِّههم في كل زمان ومكان، فإنَّ هذا المقال يقدِّم دراسة فقهية عميقة في ضوء مقاصد الشريعة، لبيان حكم العملات الرقمية وتداول الفوركس، كما تبيِّنه نصوص العلماء والهيئات الفقهية الكبرى.
ما هي العملات الرقمية؟
العملات الرقمية أو المشفَّرة (Cryptocurrencies) هي وحدات إلكترونية تُنشأ وتُخزَّن عبر نظام لامركزي يُعرف بتقنية البلوك تشين (Blockchain)، وأشهرها عملة البيتكوين (Bitcoin)، وتُستخدم هذه العملات كوسيلة للتبادل، أو كمخزن للقيمة، أو كأداة للاستثمار، لكنَّها تختلف عن النقود الورقية في أمور جوهرية أهمها:
-
لا تُصدرها جهة حكومية.
-
لا تملك غطاءً ماديًا (ذهبًا أو عملة معترفًا بها).
-
قيمتها تعتمد على العرض والطلب والمضاربات.
-
تتسم بتقلبات حادة جدًا، قد تصعد أو تهبط في دقائق معدودة.
هذه السمات تثير تساؤلًا جوهريًا: هل تعد هذه العملات مالًا معتبرًا شرعًا؟ وهل يجوز التبادل بها أو المضاربة عليها؟.
القاعدة الشرعية في المعاملات المستحدثة
من القواعد الكبرى في الفقه الإسلامي: “الأصل في المعاملات الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم”، غير أن هذه القاعدة ليست مطلقة، بل تُقيَّد بمقاصد الشريعة، وأهمها حفظ المال ومنع الغش والربا والغرر، فإذا كانت المعاملة الجديدة تحمل غررًا شديدًا أو احتمال ربا أو ضرر عام، فإنها تُمنع حمايةً للمجتمع والذمم.
موقف العلماء من العملات الرقمية
لقد انقسم العلماء المعاصرون في حكم العملات الرقمية إلى فريقين رئيسين:
1- فريق التحريم أو المنع
ويرى هذا الفريق أنَّ العملات الرقمية لا تتوافر فيها الشروط الشرعية للنقود، وأنها تتضمَّن غررًا فاحشًا ومخاطر عالية، وقد صدرت فتاوى كثيرة من هيئات معتبرة في هذا الاتجاه منها:
-
دار الإفتاء المصرية التي صرَّحت بأن التعامل بالبيتكوين محظور شرعًا لما فيه من غرر وجهالة ومخاطرة شديدة تؤدي إلى ضياع المال.
-
هيئة كبار العلماء في السعودية أكدت أن العملات الرقمية لا يمكن اعتبارها نقودًا شرعية ولا أموالًا حقيقية بالمعنى الفقهي.
-
اللجنة الدائمة للإفتاء بالأزهر الشريف رأت أن هذه العملات لا تحقق مقاصد الشريعة في حفظ الثروة والاستقرار المالي.
أدلة هذا الفريق
-
الغرر والجهالة، فالعملة الرقمية لا يُعرَف مصدرها بدقة، ولا تُضبط قيمتها، وقيمتها تتغير في لحظات، وهذا الغرر نهى عنه النبي ﷺ بقوله: “نهى رسول الله ﷺ عن بيع الغرر” (رواه مسلم).
-
احتمال الربا والمقامرة، فبعض التعاملات القائمة على المضاربة العشوائية في العملات الرقمية تُشبه الميسر، حيث يراهن المتداول على صعود أو هبوط غير مضمون.
-
غياب السلطة الضامنة، فلا يوجد جهة رسمية تضمن التعامل بها، فيسهل استخدامها في الجرائم المالية وغسيل الأموال.
-
ضررها العام، فكثير من الاقتصاديين يرون أن العملات الرقمية يمكن أن تزعزع استقرار النظام المالي العالمي وتفتح الباب للجرائم الإلكترونية، وقد قال ﷺ: “لا ضرر ولا ضرار”.
2- فريق الإباحة بشروط
أما الفريق الثاني فيرى أن الأصل في المعاملات الحل، وأن العملات الرقمية أصبحت واقعًا ماليًا لا يمكن تجاهله، وأنها تمثِّل تطورًا في مفهوم النقود مثلما كانت الأوراق النقدية يومًا ما جديدة على الناس.
حجج هذا الفريق
-
تحقيقها لمقاصد المال، حيث تُستخدم كوسيلة تبادل وقبول بين الناس، وهذا هو معنى “المال” شرعًا.
-
أن الغرر نسبي، فالغرر موجود في أسواق الأسهم أيضًا، ولا يُحرَّم إلا إذا كان فاحشًا يفضي إلى النزاع.
-
إمكان تنظيمها وتقنينها، فإذا وضعت الدولة إطارًا قانونيًا يضمن الشفافية ويمنع الغش، فلا مانع من التعامل بها.
-
الأصل في المعاملة الإباحة لقوله تعالى: “وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا” [سورة البقرة، الآية 275].
وبناءً على هذا الاتجاه، أفتى بعض العلماء بجواز الاستثمار في العملات الرقمية إذا كانت ضمن نطاق قانوني واضح، خالية من الربا والمقامرة.
موقف المجامع الفقهية والهيئات الشرعية العملات الرقمية
لم يصدر إجماع فقهي حول العملات الرقمية، لكن معظم المجامع الإسلامية دعت إلى التريث والحذر، ومنها:
-
مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة، حيث أوصى بمزيد من الدراسة لأنها ظاهرة مالية مستحدثة لم تكتمل معالمها بعد.
-
هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI) أوضحت أن التعامل بالعملات الرقمية يحتاج إلى ضوابط تحكمه من حيث الضمان والتداول الشرعي.
والخلاصة أن أكثر العلماء المعاصرين يتجهون إلى التحريم المؤقت أو الإباحة المقيدة إلى أن تتضح الضمانات والمخاطر.
حكم تداول الفوركس في الإسلام
تداول الفوركس (FOREX) يعني تبادل عملة بأخرى في الأسواق العالمية، والأصل أن بيع العملة بالعملة الأخرى جائز بشرط التقابض في المجلس، كما قال النبي ﷺ: “الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد…” (رواه مسلم).
وعلى هذا، إذا تم تداول العملات يدًا بيدٍ دون تأجيل أو ربا، فهو جائز، لكن الإشكال في الفوركس المعاصر أن معظم صفقاته تتم بالهامش (الرافعة المالية)، أي أن المتداول يقترض من الوسيط ليفتح صفقة أكبر من رأس ماله، وغالبًا ما يفرض الوسيط فائدة (Swap) أو شرطًا ربويًا إن تجاوزت الصفقة مدة معينة، أو أخذ عمولة على القرض، وهذا هو عين الربا.
صور محرَّمة في الفوركس
-
الرافعة المالية المشروطة بقرض ربوي.
-
العقود الآجلة التي لا يتحقق فيها التقابض الفوري.
-
المضاربات التي تشبه القمار في الرهان على تقلب الأسعار دون معرفةٍ حقيقية.
الصور المباحة
-
التداول الفوري الذي يتم فيه التسليم في الحال دون فوائد أو تأجيل.
-
تبادل العملات لغرض مشروع كالسفر أو التجارة، وليس للمقامرة على الأسعار.
وقد قال العلماء: “ما كان في الفوركس تقابضًا حقيقيًا وخلوًا من الربا فهو جائز، وما خلا من ذلك فهو حرام”.
الضوابط الشرعية للتعامل في الأسواق الحديثة
لكي يَطمئن المسلم في ماله واستثماره يجب عليه مراعاة الضوابط التالية:
-
تحقق التقابض الفعلي أو الحكمي في جميع المعاملات النقدية.
-
خلو المعاملة من الفوائد الربوية صريحة كانت أو خفية.
-
تجنَّب الغرر والمقامرة، أي الابتعاد عن التداول العشوائي الذي لا يقوم على دراسة أو هدف مشروع.
-
عدم الإضرار بالاقتصاد العام أو استغلال جهل الناس.
-
الالتزام بالقوانين الشرعية والوطنية التي تنظم التعاملات المالية.
حكم العملات الرقمية وتداول الفوركس بين المصلحة والمفسدة
تُقر الشريعة مبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد، فإن غلبت المفسدة حُرِّم الفعل، وإن غلبت المصلحة جاز بضوابط، وفي العملات الرقمية والفوركس تتجاذب المسألة مصلحتان:
-
مصلحة الابتكار والتيسير المالي.
-
ومفسدة الغرر والمقامرة والربا.
ولذا فإنّ َالحكم التفصيلي هو الأعدل:
-
يجوز التعامل بها كمبادلات مشروعة بضوابط صارمة.
-
يُمنع استخدامها للمقامرة أو المضاربة المتهوِّرة.
-
يُحرم إذا اشتملت على فوائد أو رهانات أو معاملات وهمية.
نصائح عملية للمسلم المعاصر
على المسلم الذي يسعى إلى الرزق أن يسأل نفسه قبل أي استثمار:
-
هل هذه المعاملة واضحة أم مشوبة بالجهالة؟
-
هل فيها ربا أو قرض جر نفعًا؟
-
هل أُدخل فيها بنية المغامرة والرهان؟
فإن وجد في نفسه شكًّا، فليتذكَّر قول النبي ﷺ: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك” (رواه الترمذي)، والأَولى للمؤمن أن يبحث عن طرق استثمارية شرعية واضحة، كالمشروعات الواقعية، أو الأسهم النقية، أو الصكوك الإسلامية، فذلك أزكى لماله وأنقى لدينه.
الخلاصة في حكم العملات الرقمية وتداول الفوركس
لا شك أن العملات الرقمية والفوركس من أعقد المسائل الاقتصادية في العصر الحديث، لكن الشريعة الإسلامية لا تقف ضد التطور، بل تضبطه بميزان العدالة والشفافية، فكل معاملة تقوم على الصدق، والقبض، والبعد عن الربا فهي حلال، وكل معاملة يدخلها الغرر والمقامرة والربا فهي حرام، مهما لبست من ثياب العصرية، والله تعالى قال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ” [سورة النساء، الآية 29]، وهذه الآية قاعدة عظيمة تشمل كل عصر ومعاملة، فهي الميزان الذي يُوزَن به كل جديد في عالم المال والتقنية.
في ختام المقال حول حكم العملات الرقمية وتداول الفوركس، نجد ملخَّص القول بأنَّ العملات الرقمية ليست حلالًا بإطلاق، ولا حرامًا بإطلاق، بل حكمها يدور مع طبيعة استعمالها، فإن استُعملت وسيلة تبادل مشروعة واضحة لا غش فيها، فهي جائزة، وإن صارت أداة مضاربة ومقامرة أو شملتها معاملات ربوية، فهي محرَّمة.
وكذلك الحال في تداول الفوركس، فإن كان البيع والشراء فوريًا دون فوائد أو قروض ربوية جاز، وإن اشتمل على ربا أو تأجيل أو مضاربة متهوِّرة حُرم.
وما أجمل قول الإمام ابن القيم: “الأحكام تَتَغَيَّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد إذا كان في ذلك مصلحة للعباد”، فلْيكن ميزان المسلم دائمًا هو الحلال والحرام، لا الربح والخسارة، وليتذكَّر أن رزقه مكتوب لا يُزاد بالحرام ولا يُنقص بالحلال، وأنَّ الله تعالى وعد من اتقى أن يُبارك له في ماله وإن قل، فقال سبحانه: “وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.” [سورة الطلاق، الآيات 2-3].
المصدر