تدبر وتأمل في آية ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ…﴾
عش مع آية ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ...﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 24].
هذه الكلمات القرآنية البليغة تطرق أبواب القلوب طرقًا رقيقًا، وتُشعل في النفس مشاعر الوفاء والحنان، فهي وصية ربانية تحمل أسمى معاني البر والإحسان، ولقد جاء الأمر الإلهي مصورًا في أبهى بيان، حيث شبَّه الله تعالى العبد في معاملته لوالديه بالطائر الذي يخفض جناحيه تواضعًا ولينًا، ليكون المشهد مفعمًا بالرحمة بعيدًا عن الجفاء أو القسوة.
إنها آية لا يمل القارئ من ترديدها، لأنها تمس أقدس رابطة بعد عبادة الله، وهي رابطة الوالدين؛ أولئك الذين سهرت أعينهم وضاقت أنفاسهم ليحيا الابن في عافية، فجاء الإسلام ليضع برّهم في منزلة عظيمة، حتى قرن الله حقهما بحقه.
سنعرض في هذا المقال تدبر هذه الآية الكريمة، ونستعرض تفسيرها ومعانيها الدقيقة، ونكشف أسرار البلاغة فيها، ونقف عند دلالاتها التربوية والاجتماعية، لنخرج في النهاية بدروس عملية تجعلنا أكثر وعيًا بمكانة الوالدين في حياتنا، وكيف نطبق هذه الوصية القرآنية في واقعنا.
السياق القرآني لآية ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ…﴾
جاءت هذه الآية ضمن مجموعة من الوصايا العشر العظيمة في سورة الإسراء، التي بدأت بقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 23]، فقرن الله بر الوالدين بعبادته، وهذا أعظم دليل على مكانة الوالدين وعِظم شأنهما، ثم فصَّل سبحانه كيفية هذا البر:
-
النهي عن قول كلمة التأفف: “فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ”.
-
النهي عن نهرهما وزجرهما.
-
الأمر بقول الكلمة الطيبة: “وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا”.
-
الأمر بالتواضع والرحمة: “وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ”.
-
الأمر بالدعاء لهما: “وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا”.
فكأن هذه الآيات قد وضعت دستورًا شاملًا لعلاقة المسلم بوالديه في كل مراحل حياتهما.
البلاغة في قوله ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ…﴾
المتأمل في هذه الآية الكريمة يقف أمام مشهد بلاغي فريد تتجلى فيه عظمة البيان القرآني وصياغته بأسمى المعاني وأوجز الألفاظ، فقد اختار الله سبحانه وتعالى صورة حسية مستمدة من عالم الطير، وهو عالم تتجسد فيه الرعاية والحماية في أبهى صورها، فقال: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾، فالطائر حين يفتح جناحيه يعلن القوة والسيطرة، وحين يرفعهما يحلِّق في الفضاء شامخًا، أما إذا أراد أن يحتضن فراخه أو يحنو عليها فإنه يخفض جناحيه، وكأنَّ هذا الخفض إعلان عن الطمأنينة واللين، فجاء التعبير القرآني ليصوِّر البر بالوالدين بمشهد حسي حي يجعل القارئ يراه بعينه قبل أن يدركه بعقله.
لكن البيان الإلهي لم يقف عند حدود التشبيه البصري، بل أضاف إليه بعدًا نفسيًّا عميقًا حين قال: ﴿جَنَاحَ الذُّلِّ﴾، والذل هنا ليس ذل المقهور الضعيف، بل هو ذل المحبة والاحترام والخضوع الطوعي ذل نابع من إدراك فضل الوالدين وعِظَم مكانتهما، فهو ذل يملؤه العز؛ لأن من يذل نفسه لوالديه إنما يرفع قدره عند الله، ومن يخفض جناحه لهما إنما يحلق بروحه في سماء القرب من الخالق جل وعلا، وهذا من أعظم أسرار البلاغة القرآنية: الجمع بين معنى التواضع في الظاهر ومعنى الرفعة في الباطن.
ثم زاد النص عمقًا وإشراقًا ببيان الدافع الحقيقي لهذا التواضع، فقال: ﴿مِنَ الرَّحْمَةِ﴾، فالبر ليس مجرد التزام اجتماعي، أو واجب ثقيل يؤديه الابن مجاملة أو خوفًا من اللوم، بل هو ثمرة شعور داخلي يفيض بالرحمة، تلك الرحمة التي سكنت قلب الابن تجاه من كانا سببًا في حياته، الرحمة التي تقابل تعب الأم وسهرها، وتضحيات الأب وكده، الرحمة التي تجعل الابن يُخضع كبرياءه بصدق لا بتصنع، ويقدِّم لوالديه حنانًا يوازي حنانهما عليه في الطفولة.
وبذلك جمعت الآية بين ثلاثة مستويات من البلاغة:
-
الصورة الحسية البصرية: خفض الجناح، الذي يثير في النفس صورة الطائر الحاني على فراخه.
-
المعنى النفسي العاطفي: الذل، الذي يعكس حالة الانكسار الاختياري الممزوج بالحب.
-
المقصد الروحي الشرعي: الرحمة، التي تمثل الأساس الذي يقوم عليه البرّ، وتجعل العمل عبادة وقربة إلى الله.
إن هذا التركيب الموجز في ألفاظه العميق في دلالاته يختصر منهج الإسلام في معاملة الوالدين: خفض للجناح في السلوك وتواضع في المشاعر ورحمة في القلب، وهذه هي البلاغة القرآنية التي لا يضاهيها تعبير، لأنها لا تصف فقط ما ينبغي أن يكون، بل تجعل المتلقي يعيش المشهد ويشعر به في أعماقه.
أقوال المفسرين عن الآية
-
ابن كثير: “أي ألن لهما جانبك، وذل لهما فعلك، كما يذل الطائر جناحه لصغيره”.
-
الطبري: “أي اخفض لهما جناحك ذلًّا ورحمةً بهما، وتواضعًا لهما، ولِن لهما في القول والفعل”.
-
القرطبي: “أمر بخفض الجناح، وجعل ذلك ذلًّا، وأضافه إلى الرحمة، أي من الرحمة بهما لا من الذل الذي هو قهر”.
-
السعدي: “اخفض لهما جانبك، ولِن لهما قلبك، وكن لهما رقيقًا رحيمًا، محبًّا لبرَّهما”.
ومن مجموع هذه الأقوال نفهم أن المقصود هو التواضع التام، مع إظهار الحنان والعطف، مقرونًا بالدعاء الدائم لهما بالرحمة.
مكانة بر الوالدين في الإسلام
إن مكانة بر الوالدين في الإسلام مكانة رفيعة لا تضاهيها إلا عبادة الله عز وجل، فقد جعل الشرع الحنيف برَّهما مقرونًا بعبادة الخالق، وكأن الله جل وعلا يريد أن يرسِّخ في وجدان المسلم أن أول حقوق الخلق بعد حق الخالق هو حق الوالدين، كما جاء في قول الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 23]، وهذه الآية الجليلة تضع بر الوالدين في مصاف التوحيد، وتبين أن إحسان المسلم إلى أبيه وأمه ليس خُلقًا مستحبًا فقط، بل فريضة شرعية وواجب تعبدي يُقاس به صدق الإيمان، وقد جاءت السنة النبوية لتؤكد هذا المعنى العظيم، ففي الحديث الصحيح سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله [رواه البخاري ومسلم]، فجعل بر الوالدين يلي الصلاة مباشرة، وقدَّمه على الجهاد، ليُظهر عِظم حقَّهما وسمو منزلتهما.
وبر الوالدين ليس مجرد أداء شكلي أو كلمات طيبة تُقال، بل هو مدرسة متكاملة تُربِّي المسلم على أرفع القيم: الصبر والتواضع والرحمة ورد الجميل، فالوالدان هما أصل الوجود، ومنبع العطاء، ومصدر الحنان، فمن أنكر فضلهما أو قصَّر في حقهما فقد أنكر أولى حلقات الإحسان التي أوصت بها الشريعة، ولذا عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين من أكبر الكبائر فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين [رواه البخاري ومسلم]، فجمع بين العقوق والشرك في خطورتهما، وهذا أعظم دليل على فداحة جرم العقوق.
كما أن البر لا ينتهي بوفاة الوالدين، بل يبقى أثره ممتدًا بعد رحيلهما، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: هل بقي من بر والديَّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما [رواه أبو داود]، وهكذا يستمر البر دعاءً وصلةً وصدقةً حتى بعد أن يواريهما الثرى.
وإذا كان بر الوالدين عبادة ووسيلة لرضا الله، فإنه كذلك مفتاح لسعة الرزق وطول العمر وراحة البال، فقد قال صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه [رواه البخاري ومسلم]، وأولى الرحم بالصلة الوالدان، بل إن رضا الوالدين باب من أبواب الجنة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه [رواه الترمذي]، فما أعظم أن يحفظ المرء هذا الباب بالبر، وما أشد الخسارة إن ضيَّعه بالعقوق.
إن بر الوالدين ليس أمرًا عاطفيًا محضًا، بل هو ركن من أركان بناء المجتمع، إحيث يحفظ تماسك الأسرة، ويغرس في الأبناء قيم الوفاء والإحسان، ويؤسس لجيل يحمل الرحمة في قلبه قبل أن يحمل العلم في عقله، ومن هنا نفهم أن الله حين أمر بالبر، إنما كان يبني إنسانًا رحيمًا وأسرة متماسكة ومجتمعًا متراحمًا، ليظل البر شعاعًا يضيء حياة المؤمن، ويكون وصية يتوارثها الأبناء كما ورثوها عن آبائهم.
الأحكام الفقهية المستنبطة من آية ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ…﴾
-
وجوب الإحسان إلى الوالدين، وهو فرض عين.
-
تحريم العقوق، سواء بالكلام أو الفعل أو ترك النفقة.
-
وجوب برَّهما في حياتهما وبعد وفاتهما بالدعاء والصدقة.
-
طاعة الوالدين واجبة في غير معصية، لقوله ﷺ: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”.
-
وجوب النفقة على الوالدين إذا كانا فقيرين عاجزين.
التطبيقات العملية لـ “خفض الجناح”
-
التكلُّم معهما بلطف دائمًا.
-
خدمتهما في مرضهما وشيخوختهما.
-
عدم التبرم أو التذمر مهما كان الطلب.
-
الدعاء لهما في كل وقت في الصلاة، في السجود، وفي أوقات الإجابة.
-
الصبر على ما قد يصدر منهما من شدّة أو قسوة عند الكبر.
هل يشرع الدعاء للوالدين غير المسلمين؟
نعم، يجوز الدعاء لهما بالهداية والرحمة في الدنيا، لكن لا يجوز الدعاء لهما بالمغفرة بعد الموت إن ماتا على الكفر.
ماذا لو كان أحد الوالدين ظالمًا؟
يبقى البر واجبًا، لكن لا طاعة له في معصية.
الفوائد الإيمانية من الآية
من أعظم ما في هذه الآية الكريمة أنها لا تقف عند حدود التوجيه الأخلاقي والسلوكي فحسب، بل تفتح أمام المؤمن أبوابًا من الفوائد الإيمانية العميقة التي تُزكِّي القلب وتُهذِّب النفس وتربط العبد بخالقه.
فأول هذه الفوائد أن الآية تعلّم المؤمن معنى التواضع لله قبل التواضع للوالدين؛ إذ من يخفض جناحه لوالديه إنما يتربى على خفض الجناح لربه في كل عبادة، فيشعر بالافتقار والانكسار أمامه جل وعلا، فلا يرى لنفسه فضلًا ولا كبرياء، بل يكون دائم الاستحضار لعظمة المنعم، شاكرًا للوسائط التي كانت سببًا في وجوده.
وثانيها أن الآية تغرس في النفس معنى الرحمة، فهي ليست مجرد أمر خارجي بالبر، بل هي توجيه لزرع الرحمة في القلوب، والرحمة خُلق من أخلاق الله جل وعلا، فهو أرحم الراحمين، ومن تخلَّق بالرحمة نال رحمة الله، وكأن الآية تقول للمؤمن: ارحم والديك رحمة صادقة كما رحمك الله، فإن الجزاء من جنس العمل.
وثالثها أن الآية تُذكِّر المؤمن بحقيقة الفضل والجميل؛ إذ من ينسى فضل والديه في صغره قد ينسى فضل ربه عليه في حياته، ومن كان جاحدًا لهما كان أقرب إلى الجحود مع خالقه، فبر الوالدين مرآة صادقة لعلاقة العبد بربه؛ فمن أحسن إلى والديه كان من أهل الشكر لله، ومن عقَّهما دل ذلك على قصور في قلبه عن إدراك عظمة المنعم.
ورابعها أنها تربي المؤمن على أدب الدعاء والخضوع، فالتعبير بخفض الجناح يوحي بحالة من الخشوع والانكسار، وهو عين ما يطلب من العبد في صلاته وسجوده ودعائه، ليكون البر بالوالدين وسيلة لتطهير القلب من الكبر الذي يحجب عن العبودية الصادقة.
وخامسها أن الآية تفتح باب الرجاء والخوف معًا: الرجاء في رحمة الله لمن رحم والديه، والخوف من سخطه لمن جفا وقصَّر، إذ قد ربط النبي صلى الله عليه وسلم رضا الله برضا الوالدين فقال: “رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد” [رواه الترمذي].
وسادسها أن هذه الآية تزرع في المؤمن معنى العبادة الشاملة، فليس البر مجرد سلوك اجتماعي، بل هو عبادة قلبية وسلوكية تُكتب بها الحسنات، ويُرفع بها الدرجات، وتُمحى بها السيئات، فالابن حين يخفض جناحه لوالديه لا يقوم بعمل دنيوي فقط، بل هو في صلاة خفية من نوع آخر، تُرفع أعمالها إلى السماء وتُكتب في صحائفه.
إنها آية تربي القلوب على الانكسار، وتغرس في الأرواح بذور الرحمة، وتجعل بر الوالدين جسرًا يصل بين الأرض والسماء، بين حق المخلوق وحق الخالق، وبين رحمة الابن لوالديه ورحمـة الله لعباده.
في الختام، تأملنا في آية ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ…﴾، ونجد أنها آية واحدة تختصر منهجًا كاملًا في التعامل مع الوالدين: لينٌ في القول وتواضع في الفعل ورحمة في القلب ودعاء باللسان، ومن عاش هذه المعاني نال رضا الله ورضا الوالدين، وكان له نصيب من وعد النبي ﷺ: “الوالد أوسط أبواب الجنة”، فلنحرص أن نكون من أهل هذه البوابة العظيمة، ولنجعل دعاءنا الدائم: “ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيرًا”.
المصادر