الصدقة الجارية وأنواع الصدقة الجارية غير المال
تعرف على الصدقة الجارية وأنواعها
الصدقة الجارية، الحمد لله الذي وسِعت رحمته كل شيء، وجعل للعبد سبيلًا لا ينقطع منه الأجر، والصلاة والسلام على من بُعث رحمةً للعالمين، سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حين تنقطع أنفاس الإنسان ويتوقف لسانه عن الذكر وتغلق صحائف الدنيا، يتمنى لو أن له في الأرض من يزرع له الحسنات، أو أن شيئًا من عمله يبقى حيًّا بعده، وهنا يبرز فضل الصدقة الجارية، ذلك العمل الخالد، الذي لا يموت بوفاة صاحبه، ولا يدفن تحت التراب، بل يظل يجري في صحائفه حسنات كجداول الماء، يُنتفع بها في الدنيا، ويؤجر عليها في الآخرة.
إن الصدقة الجارية مفهوم واسع في الإسلا يُترجم حب العطاء إلى عمل دائم، ووسيلة عظيمة لمضاعفة الأجر ورفع الدرجات بعد الممات، فعن ابن تيمية رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ : صدقةٍ جاريةٍ ، وعلمٍ ينتفعُ به ، وولدٍ صالحٍ يدعو له” (رواه مسلم)، فما أعظمها من بشارة أن يرحل الإنسان عن الدنيا، ويظل ثواب الصدقة يسري إليه، في كل وقت، وكل لحظة، وكل مكان.
ما معنى الصدقة الجارية؟
الصدقة الجارية هي كل صدقة يبقى نفعها بعد موت صاحبها، سواء كانت مادية أو معنوية، صغيرة أو كبيرة، فالعبرة ليست بقدر العطاء، بل ببقاء أثره، وبمعنى آخر كل عمل صالح يدوم نفعه حتى بعد موت صاحبه، ويستمر الأجر فيه لمن فعله أو تسبب فيه.
الفرق بين الصدقة العادية والصدقة الجارية
الصدقة العادية تُعطى لمحتاج وتنتفع بها مرة، كطعام يُؤكل أو مال يُصرف، أما الصدقة الجارية تبقى منفعتها ممتدة، كحفر بئر، أو بناء مسجد، أو وقف كتاب.
فضل الصدقة الجارية وأثرها العظيم
باقية بعد الموت
من رحمة الله بعباده أن جعل لهم أبوابًا للأجر لا تُغلق بالموت، بل تظل مفتوحة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه وولدًا صالحًا ترَكَه ومُصحفًا ورَّثَه أو مسجِدًا بناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ أو نَهرًا أجراهُ أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ” (رواه ابن ماجه).
مضاعفة الأجر ودوامه
الصدقة الجارية تضاعف الأجر باستمرار، فهي كلما انتفع بها أحد زادت في الأجر. والكرم الإلهي لا يتوقف عند مقدار الإنفاق، بل يتسع بنيَّة صاحبها، والله سبحانه وتعالى يقول: “مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” (سورة البقرة، الآية 261)، فكيف إن كانت تلك الحبة جارية النفع مستمرة العطاء؟.
الوقاية من النار
عن عدي بن حاتم الطائي أن رسول الله ﷺ قال: “اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ” (متفق عليه)، فالصدقة، ولو قليلة، تقي من النار، فكيف إن كانت جارية، يقي بها العبد نفسه مرات لا تُعد؟.
تكفير للذنوب وزيادة في الرزق
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “الصَّدقةُ تطفئُ الخطيئةَ كما يطفئُ الماءُ النَّارَ” (الترمذي)،فالصدقة تكفر الذنوب وتمحوها، وترفع درجة صاحبها عند الله يوم القيامة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “ما نقصت صدقةٌ من مالٍ” (مسلم)، فالصدقة الجارية لا تنقص المال فقط، بل تنميه وتباركه.
أعظم أنواع الصدقة الجارية
سقيا الماء
سقيا الماء تاج الصدقات، فعَن سَعد بن عِبَادَة رَضِي اللهُ عَنه أنَّ أُمَّهُ ماتت ، فقال : يا رسولَ اللهِ ! إنَّ أمي ماتت ، أفأتصدقُ عنها ؟ قال : نعم . قال : فأيُّ الصدقةِ أفضلُ . قال : سقْيُ الماءِ فتلك سقايةُ سعدٍ بالمدينةِ (رواه النسائي، وصححه الألباني)، ولم لا يكون الماء أعظم أنواع الصدقة، فهو أساس الحياة، لقول الله عز وجل: “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ” (سورة الأنبياء، الآية 30)، وكذلك سهولته تجعل الجميع قادرًا على المشاركة فيه، ومن أمثلة سقيا الماء حفر بئر في قرية فقيرة، أو تركيب مبرد ماء في مسجد أو مدرسة.
غرس شجرة أو زرع نافع
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “ما من مسلمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أو يَزْرَعُ زَرْعًا فيَأْكُلُ منه طيرٌ ولا إنسانٌ إلا كان له به صدقةً“ (رواه البخاري ومسلم)، فغرس شجرة تظل الناس أو تطعمهم صدقة جارية، أو زراعة نبتة يستفيد منها الفقراء أو المارة صدقة جارية، أو المساهمة في تشجير المساجد أو المدارس صدقة جارية، حتى شتلة صغيرة تُزرع بقلب صادق قد تصبح صدقة جارية ما دامت تنفع.
بناء المساجد
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “من بنَى مسجدًا للهِ كمَفحَصِ قَطاةٍ أو أصغرَ بنَى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ” (رواه البخاري ومسلم)، فسواء بنيت مسجدًا كاملاً، أو ساهمت في جدار، أو حتى بمسمار، فإن لك أجر كل صلاة فيه، وكل ركعة، وكل دعاء.
توفير المصاحف والكتب
كل حرف يُتلى من مصحف وضعته، أو كتاب ديني ساهمت في طباعته، فأنت شريك في الأجر.
نشر العلم وتعليم الناس
كل علم يُعلَّم للناس ويفيدهم في دينهم أو دنياهم هو من الصدقة الجارية، فإن درَّست أحدًا أو نشرت علماً نافعًا فأنت شريك في كل نفعٍ ينتج عنه.
رعاية الأيتام والتعليم
إنشاء وقف لرعاية الأيتام، أو تمويل دراستهم، أو بناء مدرسة أو مكتبة، من أعظم الصدقات الجارية.
الوقف الخيري
أن يوقف المسلم مالًا أو عقارًا أو أرضًا وتكون أرباحه في أعمال الخير ككسوة الفقراء أو تمويل طلاب العلم أو طباعة المصاحف.
بناء مراكز طبية مجانية
مساعدة المرضى بإنشاء مراكز علاجية مجانية أو توفير أجهزة طبية تنقذ أرواح الناس.
الصدقة الجارية للوالدين والأموات
إن من أعظم البر بعد الموت أن يُهدي الابن صدقة جارية لأبيه أو أمه، وذلك ثابت من فعل الصحابة، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين قالت: أنَّ امرأةً قالت : يا رسولَ اللَّهِ إنَّ أمِّي افتلتَتْ نفسُها ، ولَولا ذلِكَ لتصدَّقتْ وأعطَتْ أفترَى أن أتصدَّقَ عنها ؟ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : “نعم ، تصدَّقي عنها” (رواه البخاري)، فالصدقة الجارية تصِل، وتُبهج الميت، وتزيده نورًا في قبره.
لماذا حث الإسلام على الصدقة الجارية تحديدًا؟
الإنسان في الإسلام ليس كائنًا ينتهي عند موته، بل يمتد أثره، والصدقة الجارية تجسيد واقعي لهذا المفهوم، فلو مات الإنسان ولم يُبقِ بعده سوى ماله وبيته، انقطع عنه كل شيء،ويصير عمله هباءًا، لقول الله عز وجل: “وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا” (سورة الفرقان، الآية 23)، لكن الصدقة الجارية عمل يجري بعد الموت ولا يصير هباءً، بل ينمو ويثمر، لذلك حث الإسلام عليها لأنها وسيلة لامتداد الخير وتأصيل العطاء في النفوس.
النية في الصدقة الجارية
النية هي روح العمل، فقد يتصدق إنسان بمال كثير دون نية خالصة، فلا يقبل منه، وقد يتصدق آخر بالقليل ومع نية عظيمة، فيكتب له الأجر الكامل، فعن رسول الله ﷺ أنه قال: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” (متفق عليه)، ولذلك حتى من لم يجد ما يتصدق به يمكنه أن ينوي، ويعقد قلبه، ويبحث عن وسيلة، فيثيبه الله بنيته ولو تأخَّر التنفيذ.
أساليب للصدقة الجارية في العصر الحديث
لم تعد الصدقة الجارية محصورة ببناء المساجد أو الآبار فقط، وفي عصر التكنولوجيا والانفتاح العالمي أصبحت هناك وسائل جديدة منها:
-
إنشاء تطبيق إسلامي مجاني يُعلم الناس القرآن.
-
طباعة نسخ من المصحف بلغات مختلفة.
-
تمويل قناة دعوية تنشر التوحيد في أماكن لم يصلها الإسلام.
-
إنشاء موقع إلكتروني فيه دروس علمية مجانية.
بل حتى مشاركة منشور نافع على وسائل التواصل قد يكون صدقة جارية إن انتفع به الناس واستمر تداوله.
الصدقة الجارية للأطفال والنساء
قد يتساءل البعض: هل يمكن للمرأة أو الطفل أن يقدِّم صدقة جارية؟ الجواب: نعم، وبقوة، بل أحيانًا يكون أثرهم أعظم بسبب براءة القلوب وإخلاص النية.
فتستطيع المرأة أن تشارك في وقف مشترك، أو تطبع كتبًا دعوية، ويُمكن تعليم الطفل أن يدخر جزءًا من مصروفه للصدقة، ليغرس في قلبه معنى العطاء من الصغر، وتخيَّل أن الطفل الذي تدرب على الصدقة في العاشرة، قد يبني مسجدًا في الأربعين، وأنت كنت السبب في تربيته.
هل الصدقة الجارية فقط بالمال؟
لا، الصدقة الجارية لا تكون بالمال فقط، وهذا من رحمة الله، فإليك أنواع الصدقة الجارية غير المالية:
-
تعليم الآخرين العلم الشرعي أو القرآن.
-
إصلاح ذات البين.
-
دعوة الناس لعبادة مستمرة (كصلاة الضحى، أو ورد من الذكر).
-
نشر محتوى دعوي رقمي.
-
تعليم حرفة أو مهنة تكفل العيش الكريم.
كيف أبدأ صدقة جارية؟
-
ابدأ بالقليل، ولا تنتظر المال الكثير، وازرع بذرة، والله يتولى سقايتها.
-
اختر مشروعًا يناسبك، فيمكنك أن تبرع ببئر، أو أن تُشارك في وقف دعوي، أو أن تطبع كتبًا دينية، أو حتى ضع مصحفًا في مسجد.
-
اجعل نيتك خالصة، فالنية تصنع الفرق، وقد تكون صدقة صغيرة لكنها صادقة، فتسبق الجبال.
- لا تتبعها بالمنِّ والأذى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ”.
في الختام، بعد أن عرفنا ما هي الصدقة الجارية وأنواعها، فنجد أن هذا الباب العظيم من أبواب الخير، الذي فتحه الله لعباده، ليمتد نفعهم حتى بعد أن تُغلق أعينهم، وتُطوى صفحاتهم، ويُنسى ذكرهم في المجالس، هو الزاد الذي لا ينفد، والنور الذي لا يخبو، والأثر الذي لا يُمحى، فما أعظمها من نعمة، وما أكرمه من فضل.
تذكَّر يا عبد الله أنه لن تُدفن معك أموالك، ولكن قد يُدفن معك أجرها إن لم تُنفِقها في وقتها، وقد تُغادر الدنيا فقيرًا في أعين الناس، لكن تبيت في قبرك غنيًّا بالحسنات، إن قدَّمت لله ما تحب.
فابذر بذرتك اليوم، في مسجد، أو مصحف، أو بئر ماء، أو علم نافع، ولا تحقرن من المعروف شيئًا، فمن يدري؟ لعلها صدقة لا تراها بعينك، لكنَّ الله يرفعك بها درجات في جنته.
المصدر