الصحابية التي نزلت فيها سورة الممتحنة، الإسلام دين الرحمة والعدل لم يترك شيئًا إلا وضبطه بتشريعات حكيمة تحقق التوازن بين الحقوق والواجبات، ومن بين القضايا المهمة التي تناولها القرآن الكريم قضية هجرة النساء المسلمات من مكة إلى المدينة، خاصة بعد صلح الحديبية الذي نص على إعادة الرجال المهاجرين إلى مكة إذا طلبتهم قريش، ولكنه لم يذكر شيئًا عن النساء، وجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كحالة عملية لهذا الأمر، فنزلت بسببها آيات من سورة الممتحنة لتضع تشريعًا واضحًا حول مصير النساء المسلمات اللاتي يهاجرن إلى المدينة.
سنتناول في هذا المقال قصة هذه الصحابية التي نزلت فيها سورة الممتحنة، ومسيرة إيمانها، وهجرتها، والامتحان الذي تعرضت له، والتشريعات الإسلامية التي نزلت بسببها، مع استنباط الدروس والعبر من هذه القصة العظيمة.
الصحابية التي نزلت فيها سورة الممتحنة/أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
الصحابية التي نزلت فيها سورة الممتحنة هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها ابنة أحد زعماء قريش وأشد أعداء الإسلام، عقبة بن أبي معيط، الذي كان من كبار المشركين وأكثرهم عداوة للنبي ﷺ، ومع ذلك أخرج الله من بيته نورًا وهداية، فكانت أم كلثوم من أوائل من دخلوا الإسلام في مكة، رغم بيئتها المعادية للدين الجديد.
تربت أم كلثوم رضي الله عنها في بيت ملئ بالعداء للنبي ﷺ، إذ كان والدها عقبة أحد الذين ألحقوا الأذى الجسدي والمعنوي بالرسول ﷺ، ومن أشهر مواقفه أنه وضع سلى الجزور (أمعاء الجمل) على ظهر النبي ﷺ وهو يصلي عند الكعبة، وكان يسخر منه ويناصبه العداء بكل الطرق، ومع ذلك شاء الله أن ينبت في هذا البيت فتاة مؤمنة، امتلأ قلبها باليقين والصدق.
إسلامها وكتمان إيمانها
عاشت أم كلثوم رضي الله عنها سنواتها الأولى بعد الإسلام في بيئة عدائية للغاية، حيث كان أهلها من كبار المشركين، وبما أنها كانت امرأة، فقد كانت مُجبرة على كتمان إيمانها لتفادي التعذيب والمضايقات التي تعرَّض لها المسلمون الأوائل.
لكنها كانت تمتلك قلبًا قويًا، وعزيمة صلبة، فظلت ثابتة على دينها، متحملة كل الضغوط التي تحيط بها في انتظار الفرصة المناسبة للخروج إلى المدينة المنورة حيث المجتمع الإسلامي الذي يحميها.
هجرتها إلى المدينة في ظل صلح الحديبية
بعد صلح الحديبية بين المسلمين وقريش، والذي نص على أن من جاء إلى النبي ﷺ من أهل مكة مسلمًا يجب أن يُعاد إلى قريش، بدا الأمر وكأنه عائق أمام من يريد الهجرة في سبيل الله، لكن هذا البند كان يخص الرجال فقط، ولم يتعرض للنساء، وذلك جعل أم كلثوم رضي الله عنها ترى في ذلك فرصة للخروج من قيود قريش القاسية.
فقررت أم كلثوم رضي الله عنها الفرار سرًا تاركة أهلها وعائلتها متجهة نحو المدينة بمفردها قاطعة الصحارى والجبال، معرِّضة نفسها لخطر الإمساك بها وإعادتها إلى قريش، وكان السفر بالنسبة للمرأة في ذلك الزمان محفوفًا بالمخاطر، لكنها كانت مؤمنة بأن الله لن يخذلها.
وصولها إلى المدينة وموقف النبي ﷺ
عندما وصلت أم كلثوم رضي الله عنها إلى المدينة استقبلها المسلمون بفرح، وذهبت إلى النبي ﷺ تروي له قصتها وتطلب منه أن يحميها ولا يُعيدها إلى قريش، لكن المشكلة كانت أن قريش أرسلت رسولين إلى النبي ﷺ يطالبان بإعادتها وفقًا لشروط صلح الحديبية وأن الإتفاق يشمل جميع المهاجرين، وكان الموقف حساسًا جدًا، فلو أعادها النبي ﷺ، ستكون في خطر، ولو أبقاها فقد يتهمه المشركون بنقض العهد.
هنا جاء الوحي الإلهي بحل واضح وحاسم، حيث نزلت الآية العاشرة من سورة الممتحنة، والتي قالت: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ” (سورة الممتحنة، الآية 10)، وبهذا الأمر، قرر النبي ﷺ عدم إعادتها، وبقيت في المدينة، وتم وضع قاعدة شرعية جديدة تخص النساء المسلمات المهاجرات.
امتحان أم كلثوم رضي الله عنها وإثبات إيمانها
بناءً على الآية الكريمة أمر النبي ﷺ بامتحان أم كلثوم رضي الله عنها، وذلك بسؤالها عن سبب هجرتها، وهل تركت مكة خوفًا من أهلها، أم أنها خرجت خالصة لله ولرسوله؟
فأكدت أنها خرجت في سبيل الله، لا تريد مالًا ولا زواجًا، فكانت أول امرأة مسلمة يُطبق عليها حكم الممتحنة، وأصبحت هجرتها مبدأً تشريعيًا يُحتذى به في الإسلام.
زواج أم كلثوم رضي الله عنها من كبار الصحابة ومكانتها في الإسلام
أصبحت أم كلثوم رضي الله عنها بعد استقرارها في المدينة رمزًا للثبات والإيمان، وتزوجها الصحابي الجليل زيد بن حارثة، لكن لم يطل بقاؤه معها، حيث استشهد في معركة مؤتة.
ثم تزوجها بعده الزبير بن العوام، لكنه طلقها، فتزوجت عبد الرحمن بن عوف، وكان من كبار الصحابة وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وبعد وفاته، تزوجها عمرو بن العاص رضي الله عنه.
كانت حياتها مليئة بالجهاد والإيمان، وظلت مثالًا حيًا للمرأة المسلمة التي تحدَّت الصعاب في سبيل عقيدتها.
الدروس المستفادة من قصة الصحابية التي نزلت فيها سورة الممتحنة (أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط)
الثبات على الدين رغم المحن والابتلاءات، بالرغم من أم كلثوم رضي الله عنها عاشت في بيئة معادية للإسلام، حيث كان والدها وأشقاؤها من أشد أعداء النبي ﷺ، إلا أنها تمسكت بدينها رغم المخاطر، ويعلِّمنا موقفها أن الإيمان هو التزام وعمل وتضحية في سبيل الله.
أهمية اتخاذ قرارات شجاعة وحاسمة عندما يكون ذلك ضروريًا دون التردد أو الخوف، فنجد أم كلثوم رضي الله عنها قررت الهجرة في وقت كان المسلمون ملزمين بإعادة من يهاجر إليهم بموجب صلح الحديبية، لكنها اعتمدت على حكمتها وعلمت أن هذا البند لا يشمل النساء.
المرأة المسلمة ليست مجرد تابع، بل يمكن أن تكون عنصرًا فعَّالًا في بناء التشريعات الإسلامية والتاريخ الإسلامي، فنجد أم كلثوم رضي الله عنها لم تكن مجرد مهاجرة، بل كانت سببًا مباشرًا في نزول حكم شرعي جديد يتعلق بالهجرة النسائية وحماية النساء المسلمات من الاضطهاد.
الإسلام يحمي المرأة ويحترم قرارها، فعندما طالبت قريش بإعادة أم كلثوم رضي الله عنها نزلت الآية الكريمة التي منعت إرجاع النساء المؤمنات إلى المشركين: “فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ” (الممتحنة: 10)، ولم يُجبرها النبي ﷺ على العودة إلى قومها، كما لم يُجبرها على الزواج من مشرك، بل كفل لها الاستقلالية في القرار.
من يهاجر في سبيل الله لا يضيُّعه الله أبدًا، بل يعوِّضه خيرًا في الدنيا والآخرة، فنجد أم كلثوم قطعت مئات الكيلومترات وحدها، تاركةً أهلها وبيت أهلها، من أجل الله ورسوله، وأكرمها الله بنزول الوحي على النبي ﷺ من أجلها بتشريع في صالحالها، وتزوجت من كبار الصحابى.
الصدق في الإيمان لا بد أن يُختبر، فمن ثبت، فهو من الصادقين، ومن تخاذل، فقد كان ضعيف الإيمان، فنجد أم كلثوم عندما وصلت إلى المدينة أمر الله بامتحان المهاجرات الجدد للتأكد من أنهن خرجن لله وليس لأسباب دنيوية.
الإسلام يوازن بين الوفاء بالعهود وحماية المسلمين من الظلم والاضطهاد، ففي صلح الحديبية تضمن إعادة الرجال المهاجرين، لكن عندما طلبت قريش إعادة النساء، جاء الحكم الإلهي بمنع ذلك.
من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، فقد خرجت مهاجرة بلا مال ولا أهل، لكن الله منحها مكانة عظيمة بين الصحابة، فبعد هجرتها تزوجت أم كلثوم من كبار الصحابة مثل زيد بن حارثة، الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وكلهم من أعلام الإسلام.
أوضحت الآيات أن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تبقى زوجةً لكافر، وهو حكم شرعي استمر إلى يومنا هذا، ويؤكد هذا أهمية أن يكون الزواج مبنيًا على أسس دينية صحيحة، لأن الإيمان هو الأساس الذي يُبنى عليه البيت المسلم.
المرأة ليست بحاجة إلى أن تكون تابعة، بل يمكنها أن تكون قائدة في قراراتها المصيرية، فنجد أم كلثوم لم تنتظر مساعدة أحد، بل أخذت زمام المبادرة وهربت وحدها، وهو درس لكل امرأة مسلمة بأن الإسلام يعطي المرأة حرية الاختيار وفق الضوابط الشرعية.
في الختام، وبعد أن عرفنا من هي الصحابية التي نزلت فيها سورة الممتحنة نجد أن قصة أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها درس في الشجاعة والثبات والإيمان العميق، فقد كانت مثالًا للمرأة القوية التي تحدت الظروف القاسية، واتخذت قرارات شجاعة، وكانت سببًا في نزول حكم إسلامي خالد، كما أنها قصة تستحق التأمل، لأننا في كل زمان نحتاج إلى قوة الإيمان والتضحية في سبيل الحق، ونتعلم منها أن الإسلام دين العدل والرحمة، الذي يحفظ للمسلمين والمسلِمات حقوقهم حتى في أصعب الظروف.