باسم الله العدل الذي قامت على سننه السماوات والأرض، والذي به تنتظم الحياة وتستقيم القلوب، باسم الله العدل الذي لا يظلم أحدًا ولو كانت مثقال ذرّة، والذي يُمهل لكنه لا يُهمل ويقضي بحكمة لا يعتريها نقص ولا هوى.
إذا أشرقت في قلبك حقيقة هذا الاسم، تغيَّر منظورك لكل ما حولك؛ فترى الابتلاء في صورة امتحان، والرزق في إطار تقدير محكم، والنجاة والخيبة كليهما موازين لا تميل إلا بقدر، فالعدل ليس مجرد صفة ربانية تحفظ حقوق العباد، بل هو منهج حياة ينعكس على أقوالك وأفعالك ومواقفك، فإذا غرس في القلب أضاءه نور اليقين، وإذا تجلى في المجتمع عمَّ الأمن وساد الوئام.
سنتعرف في هذا المقال على معنى اسم الله العدل وأثره على حياة المسلم، فتابعوا معنا القراءة.
معنى اسم الله العدل
العدل في اللغة مأخوذ من الجذر (ع د ل) الذي يدل على الاستقامة والمساواة والإنصاف، ويقال: عدل الرجل إذا أنصف، وعدل الشيء إذا استقام واعتدل، وهو نقيض الجور والظلم، ومن معانيه أيضًا وضع الشيء في موضعه اللائق به، وإعطاء كل ذي حق حقه بلا زيادة ولا نقصان.
أما العدل في الاصطلاح هو ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله ﷺ من القسط والإنصاف، في الأقوال والأفعال والأحكام، كما جاء في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (سورة الأنعام، الآية 115) أي صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (سورة النحل، الآية 90)، فالعدل اسم يتضمن كمال صفات الله تعالى في أفعاله وأحكامه وقضائه، فهو سبحانه لا يظلم أحدًا مثقال ذرة، بل يقيم الميزان بين عباده بالقسط.
هل اسم العدل من الأسماء الحسنى الثابتة؟
اختلف العلماء في عد اسم الله العدل من الأسماء الحسنى، فذهب الرأي الأول إلى أنه من أسماء الله الحسنى، وإن لم يرد في القرآن باللفظ الصريح، واستدلوا بحديث الأسماء الحسنى المشهور الذي فيه ذكر اسم العدل، وإن كان الحديث ضعيفًا مرفوعًا، إلا أن معناه ثابت في القرآن والسنة.
أما الرأي الثاني يرى أنه ليس من الأسماء المنصوصة، وإنما هو وصف من صفاته سبحانه، وهذا اختيار بعض أهل العلم، لأن أسماء الله الحسنى توقيفية لا يثبت منها إلا ما ورد به النص.
والراجح أن العدل ثابت لله وصفًا وفعلاً، سواء عُد اسمًا أو وصفًا، فهو سبحانه العدل في قضائه وحكمه وقدره.
تجليات اسم الله العدل في الكون والحياة
عدل الخلق والتكوين
حين ينظر المرء إلى نفسه يجد العدل الإلهي بادياً في أدق تفاصيل خلقه عظام تسند، وعضلات تحرك، وأعضاء تعمل بانسجام دقيق، وكل عضو في موضعه لا يتقدَّم ولا يتأخر، فالله تعالى قال في كتابه: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (سورة الانفطار، الآية 7) أي جعلك معتدل القامة متناسق الأعضاء.
وفي الكون من حولنا نرى التوازن في الجاذبية، وفي دوران الأرض، وفي انتظام الفصول، فلا الشمس تتقدم على القمر، ولا القمر على الشمس، بل كل في فلك يسبحون، وهذا الانضباط الكوني صورة من صور العدل الإلهي الذي لا يختل.
عدل التشريع والأحكام
شريعة الإسلام مبنية على العدل، فلا تكليف إلا بقدرة، ولا عقوبة إلا ببيِّنة، ولا فضل إلا بعمل، والله تعالى يقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} (سورة المائدة، الآية 8)، وفي السنة قال رسول الله ﷺ: «إنَّ اللهَ أعطَى كلَّ ذِي حَقٍّ حَقَُّه» (رواه مسلم)، فجاءت الشريعة بحفظ الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، وجعلت لكل منها حدودًا تحفظه من الضياع، وذلك عين العدل.
عدل الجزاء يوم القيامة
من أعظم تجليات اسم الله العدل أنه يقيم الميزان يوم القيامة بالقسط، فالله تعالى يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ} (سورة الأنبياء، الآية 47)، فلا يُظلم أحد، ولو كان العمل صغيرًا كحبة خردل. وهذا يملأ قلب المؤمن يقينًا بأن الله لن يضيِّع تعبه، ولن يترك ظالمًا بلا حساب.
أثر اسم الله العدل في حياة المسلم
طمأنينة القلب في قضاء الله
حين يوقن المسلم أن الله هو العدل يطمئن إلى قضائه وقدره، فلا يجزع عند المصائب، ولا يتسخَّط عند الابتلاءات، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن الله حكم عدل لا يقضي إلا بالحق، فعن النبي ﷺ أنه قال: «واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضروكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليكَ» (رواه الترمذي).
الاستقامة على الطريق المستقيم
العدل يربي المسلم على الوسطية، فلا يغلو ولا يفرِّط، ولا يبالغ في العبادة حتى يرهق نفسه، ولا يتركها فيضيع. قال النبي ﷺ: «إنَّ هذا الدينَ يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبهُ» (رواه البخاري).
محبة الله ورضاه
الله يحب العدل وأهله. قال تعالى: {وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة الحجرات، الآية 9)، فمن أحب أن ينال محبة الله، فليحرص على العدل في أقواله وأفعاله، وليؤد الحقوق إلى أهلها.
بناء مجتمعات متماسكة
إذا ساد العدل بين الناس اطمأنت القلوب واستقرت الحياة وانتشر الأمن، أما إذا غاب العدل وحل الظلم، وتفككت المجتمعات وزالت الدول، فالنبي ﷺ قال: «إنما هلك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ» (رواه البخاري ومسلم).
كيف يتخلَّق المسلم باسم الله العدل؟
- العدل مع النفس، بأن يضع الإنسان نفسه في موضعها اللائق، فلا يحملها فوق طاقتها، ولا يهملها حتى تهلك، ويعدل بين مطالب الروح والجسد، وبين العمل والراحة، وبين الجد واللهو.
-
العدل مع الأهل والأبناء، فالنبي ﷺ قال: «اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا في أَوْلَادِكُمْ» (رواه البخاري ومسلم)، وإعطاء كل واحد منهم حقه من الحب والرعاية والاهتمام واجب، حتى لا يزرع التفضيل بذور العداوة في قلوبهم.
-
العدل مع الناس، فعلى المسلم أن يعدل في حكمه على الآخرين، ولا يحابي قريبًا ولا ينتقم من بعيد، ويعدل في البيع والشراء، وفي العمل والوظيفة، وفي القول والفعل، فالله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (سورة النساء، الآية 135).
-
العدل مع الأعداء، فحتى العدو لا يجوز ظلمه، والله تعالى قال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} (سورة المائدة، الآية 8).
الدعاء باسم الله العدل
اسم الله العدل من الأسماء التي يشرع للمسلم أن يدعو الله بها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا} (سورة الأعراف، الآية 180)، ومن الأدعية:
-
اللهم يا عدل، أنصفني ممن ظلمني.
-
اللهم يا عدل، اجعلني قائمًا بالقسط في أهلي وأولادي.
-
اللهم يا عدل، ارزقني قلبًا يرضى بقضائك وقدرك.
الدروس المستفادة من اسم الله العدل
-
أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الله لا يرضى به لعباده.
-
أن من استشعر عدل الله، عاش مطمئنًا، لا يحقد ولا يحسد.
-
أن إقامة العدل مسؤولية كل مسلم، يبدأ بنفسه ثم في محيطه.
-
أن العدل من أعظم أسباب نصر الأمة وعلوّ شأنها.
في الختام، إن إدراك معنى اسم الله العدل يغيِّر حياة المسلم من جذورها، ويزرع في قلبه الطمأنينة، ويقوده إلى حسن الظن بالله، ويجعله محبًا للإنصاف بعيدًا عن الظلم، كما يربيه على الوسطية والاعتدال في كل أمر، وإذا عم العدل المجتمع عاش الناس في أمن ورخاء.
فلتكن أيها المسلم تجسيدًا لاسم الله العدل في حياتك، ومنصفًا مع نفسك، ومحسنًا إلى أهلك، ومقسطًا في عملك، ورحيمًا مع من حولك، ولا تنسَ أن تلهج بالدعاء “يا عدل يا حكيم اجعلنا من أهل القسط الذين تحبهم، ونجّنا من الظلم والهوى”.
المصدر