الحركة في الصلاة، الصلاة هي اللحظة التي يلتقي فيها العبد بربه، ويتحرر فيها من هموم الدنيا ليقف خاشعًا بين يدي خالقه، فهي صلة، وعبادة، وسر من أسرار الروح، لكن ما إن يدخل العبد فيها، حتى تبدأ الوساوس، وتنشط الحركات، وقد يتحول الخشوع إلى شرود، والجسد إلى حركات متتالية حكَّة، أو تعديل، أو عبث في الثياب، أو التفات هنا وهناك، وهنا يتساءل السائل بوجلٍ: هل كثرة الحركة في الصلاة تبطلها؟ وهل يجوز أن أتحرك كثيرًا أثناء صلاتي دون أن تُرد عليَّ؟ وهل هناك حد معين للحركات يفسدها؟.
سنتعرف في هذا المقال على حكم كثرة الحركة في الصلاة، وهل كثرة الحركة تُبطل الصلاة، فتابعوا معنا قراءة المقال.
معنى الحركة في الصلاة
الحركة في الصلاة تعني تحريك العضو أو البدن أثناء الصلاة بما ليس من جنسها، كتحريك اليد لغير تكبيرة أو تشهد، أو تعديل الملابس، أو العبث باللحية، أو غيرها من الحركات التي لا تُعتبر من أركان الصلاة.
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الحركات بحسب نوعها، ودرجتها، ومقصد فاعلها، فالحركة اليسيرة المعفو عنها ليست كالحركة الكثيرة المتواصلة، والحركة المقصودة ليست كالعفوية، وهكذا.
أقوال العلماء حول كثرة الحركة في الصلاة
اتفق جمهور العلماء على أن كثرة الحركة في الصلاة إن كانت لغير ضرورة فإنها تبطل الصلاة، ولكنهم اختلفوا في ضابط الكثرة، فدعونا نتعرف على حكم الحركة في الصلاة عند المذاهب الأربعة.
الحنفية
قال الحنفية أن الحركة الكثيرة التي تُخرج المصلي عن صورة المصلي وتلفت النظر إليه تبطل الصلاة، ولو لم تكن في زمن طويل، ما دام المشاهد من بعيد يظن أن هذا الشخص ليس في صلاة.
قال الإمام الكاساني رحمه الله في بدائع الصنائع (1/503): “الحركة الكثيرة المتوالية تفسد الصلاة، وهي التي لو رآه من لا يدري أنه في الصلاة يحكم بأنه ليس فيها”.
المالكية
رأى المالكية أن الحركات إن كانت بغير حاجة وكثرت، وخرجت الصلاة عن خشوعها بطلت، أما القليلة أو اليسيرة أو لحاجة فلا تؤثر.
قال الإمام الدسوقي في حاشيته (1/239): “تُبطل الصلاة بكثرة الأفعال المتوالية التي ليست من جنسها، إذا كانت من غير عذر”.
الشافعية
يرى الشافعية إن الحركة الكثيرة المتوالية إذا لم تكن من جنس الصلاة تبطلها، بشرط أن تكون ثلاث حركات متواليات بلا فاصل، كخطوات متتالية، أو تحركات واضحة.
قال النووي رحمه الله في روضة الطالبين (1/67): “يبطلها فعل كثير منافي لها، كأن يمشي ثلاث خطوات أو يحرك أعضاءه ثلاث حركات متوالية”.
الحنابلة
فرق الحنابلة بين الحركة اليسيرة والكثيرة، وقالوا إن الكثيرة العمدية لغير حاجة تبطل الصلاة، أما اليسيرة أو غير المقصودة أو للحاجة فلا تبطلها.
قال الإمام ابن قدامة في المغني (2/106): “الفعل الكثير إذا كان متتابعًا لغير ضرورة أبطل الصلاة”.
ما هو ضابط كثرة الحركة التي تبطل الصلاة؟
مسألة كثرة الحركة ليست لها عدد معين منصوص عليه في الشرع، ولكنها عند الفقهاء تُقدَّر بالعرف، أي بما يراه الناس عادة كثرة، فالكثرة عند بعضهم هي ما يخرِج المصلي عن هيئة المصلي، وعند آخرين أن تتوالى الحركات بلا فاصل، والضابط الأوضح والأعمق أن يفقد المصلي الخشوع وتصبح حركاته شبيهة بحركات من ليس في الصلاة.
فمن يقوم أثناء الصلاة ويحك رأسه، ثم يعدل ثوبه، ثم يعبث بلحيته، ثم ينظر يمينًا وشمالاً بلا حاجة، فإن هذا قد يُعد في عرف الناس كمن ليس في صلاة، فتُبطل صلاته عند أكثر أهل العلم.
ماذا عن الحركة للحاجة؟
هنا يفتح الفقه باب الرحمة للناس، فالحركة اليسيرة للحاجة لا تبطل الصلاة، بل جائزة، ومن ذلك دفع المؤذي، وقتل العقرب أو الحية، وإمساك الطفل، وفتح الباب، تعديل السترة أو اللباس.
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: “كان النبي ﷺ يصلي وهو حامل أُمامة بنت زينب، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها” (رواه البخاري (516) ومسلم (543))، فانظر إلى الرحمة واليسر في الشريعة، كيف رخصت بالحركة للحاجة.
ماذا عن الوسوسة والعبث أثناء الصلاة؟
العبث أثناء الصلاة كالعبث بالساعة أو اللحية أو الملابس، إن كان يسيرًا وعارضًا، فلا حرج، لكن إن تكرر بلا حاجة، فهو من العبث المنهي عنه.
عن عمار بن ياسر أن النبي ﷺ قال: “إنَّ الرَّجلَ لينصَرِفُ وما كُتِبَ لَهُ إلَّا عُشرُ صلاتِهِ تُسعُها ثُمنُها سُبعُها سُدسُها خُمسُها رُبعُها ثُلثُها نِصفُها” (رواه أبو داود (796) وحسنه الألباني)، ولذلك قال السلف: “من لم يُقبل على الله في صلاته، لم يُقبل الله عليه”.
الفرق بين الحركة والخشوع
قد يظن بعض الناس أن كثرة الحركة في الصلاة تُفقدها قيمتها فقط، لكن الأمر أعمق، فهي تجرح مقام العبودية، وتخدش هيبة الوقوف بين يدي الملك، فالخشوع هو حضور القلب والجسد، والحركة الزائدة دليل على تشتت الذهن وضعف الإقبال على الله.
قال ابن القيم رحمه الله: “الخشوع في الصلاة روحها وسرها، وليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها”.
رأي العلماء المعاصرين والمجامع الفقهية في كثرة الحركة في الصلاة
مع تطور الأحوال وظهور الابتلاءات النفسية والصحية تزايدت الحاجة إلى بيان أكثر تفصيلًا من العلماء المعاصرين حول مسألة كثرة الحركة في الصلاة، خاصة في ظل ظروف كالإرهاق الذهني، واضطرابات التركيز، وانتشار الوساوس.
هيئة كبار العلماء في السعودية
أصدرت هيئة كبار العلماء في السعودية فتاوى متعددة تؤكد فيها أن الحركة في الصلاة إن كانت كثيرة متوالية من غير حاجة فإنها تُبطل الصلاة، لكن إن كانت يسيرة، أو لحاجة، أو بسبب عارض كوسواس قهري أو مرض، فلا تبطل، بل يُعذر صاحبها.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: “إذا كثرت الحركة بغير حاجة وأشغلت عن الخشوع فإنها تُبطل الصلاة، لكن الحركة اليسيرة، أو ما كان لحاجة، فلا بأس بها”.
المجمع الفقهي الإسلامي (رابطة العالم الإسلامي):
في إحدى ندواته عام 2005 ناقش المجمع أحكام الوساوس والحركات اللاإرادية، وخلص إلى أن الحركات الخارجة عن السيطرة (مثل التشنجات العصبية أو اللاإرادية) لا تُبطل الصلاة ما دام العقل حاضرًا، وأن المسلم غير المكلف بضبطها، لا يأثم ولا تُرد صلاته، وذلك من رحمة الله بعباده، كما قال تعالى: “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا” (سورة البقرة، الآية 286).
الفرق بين الحركة العادية والحركة اللاإرادية في الصلاة
من الأمور التي تشكل على الناس اليوم: هل الحركات الناتجة عن توتر نفسي، أو وسواس قهري، أو خلل عصبي، أو مرض عضوي تُبطل الصلاة؟
الجواب عند فقهاء الإسلام: لا، ما دام العبد عاجزًا عن التحكم، ومن أمثلته:
-
مريض الوسواس القهري الذي لا يستطيع الثبات.
-
شخص يعاني من رُعاش (مثل مرضى باركنسون).
-
من يضطر لتحريك قدمه باستمرار بلا وعي.
هؤلاء لا تبطل صلاتهم، بل يُثابون على جهادهم، لقول النبي ﷺ: “إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ كتبَ لَهُ من العملِ ما كانَ يعملُهُ وَهوَ صحيحٌ مقيمٌ” (رواه البخاري (2996)).
أثر كثرة الحركة في الصلاة على صحة الجماعة والإمامة
قد نرى في المساجد إمامًا يتحرك كثيرًا، أو مأمومًا ينشغل بحركات متكررة، فهل يؤثر ذلك على الجماعة؟
إن كانت الحركات يسيرة أو لحاجة فلا أثر، والصلاة صحيحة، أما إن كانت الحركات كثيرة متواصلة من الإمام بحيث خرج عن هيئة المصلي أو لفت النظر، فإنها تُبطل صلاته عند كثير من العلماء، وتبطل صلاة المأمومين إن لم يبدلوا إمامًا فورًا عند علمهم ببطلانها.
قال الإمام النووي رحمه الله: “إذا بطلت صلاة الإمام بطل خلفه إن لم يفارقه حين علم ببطلانها” (المجموع (4/144)).
كيف نربِّي أبناءنا على ترك الحركة في الصلاة؟
تربية الأبناء على تعظيم الصلاة تبدأ من الطفولة، وهناك خطوات فقهية وتربوية ناجحة:
-
كن قدوة لهم، فإن ثبت في صلاتك، فإنهم يقلدونك.
-
التدريب بالترغيب، واجعل الأمر محببًا لا بالتخويف.
-
التدرج معهم، فابدأ بخمس دقائق تركيز، ثم زدها.
-
التنبيه بلطف، فلا تعنفه أثناء الصلاة، ولكن بعد الانتهاء.
-
التحفيز مثل جدول المكافآت لمن يقلل حركته.
قال رسول الله ﷺ: “مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر” (رواه أبو داود (495)).
أسئلة شائعة حول الحركة في الصلاة
هل تعديل الساعة أو الخاتم يبطل الصلاة؟
لا، إذا كان تعديلًا يسيرًا ولم يتكرر بلا سبب.
هل حك الجسد أثناء الصلاة يفسدها؟
لا، ما لم يكثر ويتوالَ.
هل الحركة لإغلاق باب أو دفع ولدٍ يُبطل الصلاة؟
لا، بل يُعد من الحاجة التي لا تفسد الصلاة.
هل تحريك الرأس المتكرر من الوساوس يبطل الصلاة؟
لا، إن كان عفويًا أو لمرض أو وسواس.
كيف نتجنب كثرة الحركة في الصلاة؟
-
الاستعداد المسبق للصلاة بتهيئة المكان، والثياب، والجو العام.
-
الاستحضار القلبي بأن تتذكر أنك واقف بين يدي الله.
-
قراءة وفهم معاني الأذكار، فذلك يعين على الحضور.
-
الإقلال من الحركات حتى اليسيرة منها، إلا لضرورة.
-
تذكير النفس دائمًا أن الصلاة ميزان القبول، وأنها أول ما يُحاسب عليه العبد.
في الختام، عرفنا معًا هل كثرة الحركة في الصلاة تبطلها أم لا، فيا أيها المصلي إن وقوفك بين يدي الله ليس موقف أداء واجب فحسب، بل هو لقاء الحبيب بالحبيب، وموعد بين العبد والمولى، فلا تجعل حركات جسدك تنسيك هيبة الموقف، ولا تجعل وساوس نفسك تسرق من قلبك لذة الصلاة، فالصلاة متى ما خلت من الخشوع بقيت صورة لا روح لها، فحافظ على سكون الجوارح، كما تحفظ حضور القلب، ولا تنشغل عن مولاك بحكة أو عبث أو التفاتة، فكم من صلاة قُبلت لأنها خلت من الحركة، وامتلأت بالحضور.
يا رب يا من علمتنا الصلاة وجعلتها راحةً للقلوب اجعل لنا فيها سكينة، ولقلوبنا فيها خشوعًا، ولأجسادنا فيها وقارًا.
اللهم لا تجعل حركاتنا فيها شتاتًا، ولا جوارحنا فيها عابثة، بل اجعلنا من الذين إذا قاموا للصلاة، قاموا وجِلون، قائمين بين يديك متأدبين، راجين عفوك، مشتاقين للقائك.
اللهم اجعل الصلاة قرة أعيننا كما كانت لقلب نبيك ﷺ.
المصدر