في زمن غلب فيه المظهر على الجوهر، وكثرت فيه العبادات الخالية من الروح يُبعث في قلب المؤمن سؤال ملح ألا وهو من هم المحسنون؟ وما الذي ميَّزهم عن غيرهم حتى اختصهم الله تعالى بمحبته، وجعلهم من أهل البِشرى، وقرنهم مع المقربين؟.
إن الحديث عن الإحسان ليس حديثًا عابرًا عن عمل فاضل، بل هو حديث عن مقام عظيم يُعد ذروة سنام الدين، وغاية المقربين من عباد الله الصالحين، وسر فلاح الدنيا وسعادة الآخرة، فلنتعرف معًا على هذا المقام الرباني، ونتعرف من هم المحسنون، وما صفاتهم، وما جزاؤهم، وكيف نكون منهم.
ما هو الإحسان؟
الإحسان في اللغة مأخوذ من “الحُسن”، وهو ضد القُبح، ويُقال: “أحسن فلانٌ إلى فلان” إذا فعل معه خيرًا، وهو يشمل الإتقان، والإجادة، والبر، والفضل.
وفي الإصطلاح قد عرَّفه النبي ﷺ تعريفًا جامعًا مانعًا في حديث جبريل عليه السلام حين سأله: ما الإحسان؟ قال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (رواه مسلم).
فالإحسان في الإسلام ليس مجرد الإتقان الظاهري، بل هو مقام قلبي راقي تتحول فيه العبادة والمعاملة إلى تجربة روحية خالصة، تجعل العبد يعيش في مراقبة دائمة لله، في السر والعلانية.
مكانة الإحسان في مراتب الدين
للدين ثلاث مراتب كما بينها النبي ﷺ:
-
الإسلام: وهي الأعمال الظاهرة من صلاة وصوم وزكاة.
-
الإيمان: وهي العقائد واليقين الباطني بالله وملائكته وكتبه ورسله.
-
الإحسان: وهو أن تبلغ من الصدق مع الله والتقوى حدًّا تعيش فيه كأنك ترى الله في كل لحظة.
وكل من الإسلام والإيمان مطلوبان، لكن الإحسان هو الغاية، وهو السُّلَّم الذي يصعد عليه الأولياء والمقربون.
من هم المحسنون؟
المحسنون هم الصفوة المختارة، الذين رفعهم الله تعالى فوق عباده بمرتبتهم العالية وإيمانهم العميق وأعمالهم الخالصة. هم قوم باعوا أنفسهم لله، فجعلهم الله من المقربين، وأحبهم وذكرهم في محكم كتابه مراتٍ ومرات، فدعونا نتعرف على صفاتهم:
صفات المحسنين
الإحسان في عبادة الله
الصفة الأولى والأعظم هي الإحسان في العلاقة مع الله، وذلك هو أصل الإحسان الذي عليه تُبنى سائر الصفات، كما جاء في حديث جبريل المشهور مع النبي صلى الله عليه وسلم.
الإحسان هنا هو أعلى مراتب الدين، وأن تعبد الله بقلب حي، ويقينٍ عميق، كأنك ترى الله بعين بصيرتك، فلا يكفي أداء الصلوات، بل المطلوب أن تقف بين يدي الله بقلب خاشع، وحاضر، خالي من الرياء، وأن تصوم لا لمجرد الجوع والعطش، بل رغبة في القرب من الله، وأن تذكره وتستغفره، لا بلسانك فقط، بل بجوارحك وعقلك وروحك.
هذه الدرجة هي التي تميز المحسنين عن غيرهم، فالإحسان لا يعني فقط الإحسان إلى الناس، بل يبدأ من إحسان العبد صلته بخالقه.
مراقبة الله في السر والعلن
من صفات المحسنين أنهم يراقبون الله في السر كما في العلن، ولا تضعف همَّتهم حين يغيب الناس، ولا يتهاونون في الخلوات، فهم يعلمون أن الله معهم، مطِّلع عليهم لا يغفل ولا ينام، وقد وصفهم الله تعالى الذين بقوله:﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (سورة المائدة، الآية 93).
والمحسنون يخافون الله وهم في الخفاء، لا يراهم أحد، وتتجلى هنا حقيقة المحسن، بأن يكون قلبه معلقًا بالله في كل حال، لا يُفرِّط في الطاعة، ولا يتبع الهوى، ولو خلا بنفسه.
الإنفاق في السراء والضراء
قال الله عز وجل في كتابه عن المحسنين: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة آل عمران، الآية 134).
الإحسان يشمل البذل والعطاء، سواء كان الإنسان موسرًا أو معسرًا، فالمحسن لا ينتظر الغنى ليبذل، ولا يمنّ بما أعطى. بل ينفق وهو موقن أن ما عند الله خير وأبقى.
وقد جمع الله في هذه الآية بين صفات عدة الإنفاق في كل حال غنىً أو فقرًا، راحةً أو مشقة، وكظم الغيظ (السيطرة على النفس عند الغضب)، والعفو عن الناس (التسامي فوق الأذى، وعدم الانتقام).
وكل ذلك سُقِي بعبارة واحدة ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، فما أعظمها من بشارة.
الصفح والعفو
من دلائل الإحسان أن تقدر على العقوبة ثم تعفو، أن تتعرض للإساءة وترد بالإحسان، فالله تعالى قال: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾
(سورة الشورى، الآية 43)، وقال أيضًا: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة المائدة، الآية 13).
فالمحسن لا يحمل في قلبه غلًا ولا حقدًا، ولا يُجاري الناس في أذاهم، بل يتجاوز عن الهفوات، ويقابل الإساءة بالإحسان، وذلك هو خُلق النبي ﷺ الذي عفا عن أهل مكة يوم الفتح، مع أنهم آذوه وطردوه وقتلوا أصحابه.
الاجتهاد في الطاعات والمجاهدة
المحسن لا يركن إلى الراحة، ولا يتهاون في الطاعة، بل يجاهد نفسه على القيام والصيام، وعلى غض البصر، وكف اللسان، وتطهير القلب، فالمجاهدون في سبيل الله هم المحسنون حقًا، سواء كانت مجاهدتهم في ميدان القتال، أو في ميدان النفس، حيث قال الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة العنكبوت، الآية 69).
وقد قال الحسن البصري رحمه الله: “ليس الإحسان أن تحسن في العلانية وتسيء في السر، بل الإحسان أن تحسن في السر والعلانية”.
الاستغفار في الأسحار
قال الله سبحانه في وصف المحسنين أيضًا: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ • وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (سورة الذاريات، الآيات17-18)، فالمحسن لا ينام عن ربه، بل يقوم الليل يناجيه، ويركع ويسجد ويستغفر، يسأل الله المغفرة وهو في خلوته وسجوده، يتذلل ويبكي ويستغفر بالأسحار؛ لأن قلبه حي يشعر بثقل ذنوبه وإن كانت صغيرة، ويعلم أن لحظات الأسحار هي أحب الأوقات إلى الله.
الصبر على البلاء
الصبر من علامات الإحسان. فالمحسن يثبت حين تزل الأقدام، ويرضى إذا أصابه البلاء، ولا يتسخط، ولا يعترض على قَدَر الله، بل يحسن الظن به، ويوقن أن مع العسر يسرا، وقد قال الله في كتابه: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة يوسف، الآية 90).
خشية الله في السر والعلن
قال الله تعالى ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ﴾ (سورة الأنبياء، الآية 49)، فالمحسنون هم الذين يخشون الله في خلواتهم أكثر من علانيتهم، لأن قلوبهم حيَّة، موقنة، لا تحتاج إلى رقابة بشرية لتتقي الله.
الزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة
المحسن يعلم أن الدنيا زائلة، وأن مقامه الحقيقي هو عند الله. فلا يغتر بزخارف الدنيا، ولا يجعل الدنيا أكبر همه، بل يعمل لما بعد الموت، وذلك امتثالًا لقول الله عز وجل: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (سورة آل عمران، الآية 185).
العمل بالحق وتصديق الرسل
المحسنون هم من يُصدقون بالحق إذا جاءهم، لا يعاندون ولا يتبعون الهوى، بل يتّبعون الحق حيثما كان، ويصدقون الرسل ويتبعونهم بإخلاص.
جزاء المحسنين عند الله
المحسنون هم النخبة التي اختارها الله، فجعل لهم الجزاء الأوفى، والعطاء الأكبر، والمقام المحمود في الدنيا والآخرة، وقد وعدهم الله في كتابه الكريم بوعدٍ لا يُخلف، وأثنى عليهم في آياته ثناءً عظيمًا، وتكفَّل لهم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن جزاء المحسنين عند الله:
محبة الله لهم
وما أعظمها من جائزة! أن تكون ممن أحبهم الله، ورضي عنهم، وقرَّبهم، وقد ذكر الله عز وجل محبته للمحسنين في عدة سور منها [البقرة، الآية 195، آل عمران، الآية 134، المائدة، الآية 13]، وقال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
والمحسن إذا أحسن عبوديته نال محبة ربه، وهل بعد محبة الله شيء؟!، فمحبة الله اصطفاء، وهداية، وتوفيق، ورحمة تُغمر بها الحياة والممات، ثم القرب في دار الكرامة.
الهدى والتوفيق
من جزاء المحسنين أن الله يهديهم، ويرشدهم، ويعينهم على الثبات على الحق، فبينما يضل غيرهم في فتن الحياة، يثبت الله المحسن على الصراط المستقيم، ويفتح له أبواب الخير، والله تعالى قال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة العنكبوت، الآية 69)، فالمحسن لا يسير وحده، بل الله معه، يُنير له الطريق، ويُهيئ له الأسباب.
معيَّة الله الخاصة
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة العنكبوت، الآية 69).
معيَّة الله للمحسن ليست كأي معيَّة، بل هي معيَّة النصر، والحفظ، والرحمة، والتأييد، فحين تُظلم يكون الله معك، وحين تُؤذى يحفظك الله، وحين تضيق الدنيا يفتح لك الله أبواب الفرج، فهذه المعية تُبدِّد المخاوف، وتمنح العبد طمأنينة وسكينة، لا تُشترى بمال.
مغفرة الذنوب ومحو السيئات
المحسن يُقابل السيئة بالحسنة، والله يُقابل إحسانه بالعفو والمغفرة، ومن عظيم فضله أن الله لا يكتفي بمغفرة ذنوب المحسنين، بل يبدِّلها حسنات، ويزيدهم فوق ذلك خير الجزاء، حيث قال الله تعالى: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ۚ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة الأعراف، الآية 161).
البُشرى في الدنيا والآخرة
من الإحسان أن يجمع العبد بين الإيمان والتقوى، ومن جمعهما نال البُشرى في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا ينال راحة البال، ونور في القلب والقبول في الأرض، والتوفيق في الطاعة.
وفي الآخرة ينال الأمن يوم الفزع الأكبر، والبشارة بالجنة عند الموت، واستقبال الملائكة بأطيب التحية، فالله عز وجل قال: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة الحج، الآية 37).
الأمن من الخوف يوم القيامة
قال الله تعالى: ﴿بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية112).
ما أعظمه من جزاء! أن تُحشر يوم القيامة مطمئنًا، لا تخاف من النار، ولا تحزن على الدنيا، لأنك أحسنت في حياتك، وكان قلبك معلَّقًا بالله، وأعمالك خالصة لوجهه الكريم.
الجزاء الأوفى والأعظم في الجنة
قال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ (سورة الرحمن، الآية 60]، وهذا وعدٌ من الله، أن من أحسن في دنياه، فإن الله يُحسن إليه في أخراه، وليس هناك إحسان أعظم من رؤية وجه الله الكريم، ودخول الجنة بلا حساب، ومرافقة النبي ﷺ، والأمن الأبدي، والحياة الخالدة.
رؤية الله تعالى في الجنة
وقد فسَّر بعض المفسرين قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ﴾
(سورة يونس، الآية 26) بأن “الزيادة” هي رؤية الله.
وورد في الحديث: ” في قولِهِ : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ قالَ : إذا دخلَ أَهْلُ الجنَّةِ الجنَّةَ نادى مُنادٍ : إنَّ لَكُم عندَ اللَّهِ موعدًا ، قالوا : ألَم يبيِّضْ وجوهَنا وينجِّنا منَ النَّارِ ويدخِلْنا الجنَّةَ ؟ قالوا : بلى ، فيُكْشفُ الحجابُ ، قالَ : فواللَّهِ ما أعطاهُم شيئًا أحبَّ إليهِم منَ النَّظرِ إليهِ” (رواه مسلم).
فهل هناك جزاء أعظم من أن تُرفع عنك الحجب، فتنظر إلى وجه ربك؟ ذلك هو جزاء الإحسان.
حفظ الذرية والنسل
من الإحسان أن يُبارك الله في ذرية المحسن، حتى بعد وفاته، كما حفظ الله كنز اليتيمين بسبب صلاح أبيهما، لقوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ (سورة الكهف، الآية82)، فإحسانك لا ينتهي بموتك، بل يمتد أثره إلى أولادك وأحفادك.
المصدر